التنقيب عن الآثار في زمن الحرب عندما تحل الجرافة مكان “المسطرين” -د.شيخموس علي – أ.سالم علي
أدى انتشار الفوضى في سوريا إلى خلق بيئة مناسبة لتجار الآثار ومهربيها، أتاحت لهم فُرصة ذهبية للقيام بأعمال التنقيب السري غير المشروع، ذلك أن اهتمام جميع الأجهزة الأمنية قد انصبّ كلياً على مراقبة وملاحقة أكبر عدد ممكن من المشاركين في هذه المظاهرات واعتقال منظّميها، وتُركت المواقع الأثرية بشكلٍ شبه متعمّد لتعيث بها معاول ضعاف النفوس نهباً وتدميراً، فتتولى مافيات التهريب المرتبطة بهذه الأجهزة ومراكز النفوذ بقية القصة المعروفة.
إن أخطار التعدي والتخريب في المواقع الأثرية والمتمثلة بالحفريات العشوائية التي كانت مجموعات من اللصوص تقوم بها في هذه المواقع لم تكن تأتِ بالدرجة الأولى من النشاط المتزايد لهؤلاء اللصوص، حيث أنها كانت مقتصرة ومحدودة إلى حدٍّ ما بعدد قليل من هذه المواقع، بل إن الخطورة الكبرى والأضرار الأعظم جاءت نتيجةٍ لاتخاذ القوات العسكرية النظامية من هذه المواقع والمباني مواقع تمركز وتحصّن، مع ما رافق ذلك من تواجد لكافة أنواع الآليات الثقيلة من دبابات ومدافع وراجمات الصواريخ وغيرها، وما يستلزمه ذلك من قيام الجرافات والبلدوزرات الضخمة بتجريف الطبقات الأثرية في هذه المواقع لإقامة التحصينات والسواتر، التي تشكّل بمواقعها نقاطاً استراتيجية مدروسة مثل تل إعزاز، وتل رفعت، وقلعة حمص، وقلعة حماة،… الخ.
وبطبيعة الحال أدى مثل هذا التمركز العسكري إلى تحويل المباني والمواقع الأثرية وحتى المتاحف إلى ثكنات عسكرية، كما تحوّل البعض منها إلى ساحات حرب اعتباراً من النصف الثاني للعام 2012، ما أدى إلى إصابة العديد منها بأضرار جسمية على الغالب لا يمكن تعويضها كما هو الحال في مدينة حمص القديمة – وتل الشيخ حمد في دير الزور.
وبمرور الوقت وتطوّر الأحداث المتلاحقة والمتسارعة فقد ترافق هذا الخلل الأمني بنشاط منقطع النظير من قبل لصوص الآثار الذين التقت مصالحهم وتقاطعت أحياناً كثيرة مع جنرالات وأمراء الحرب من مختلف الجهات المسلحة. ففي أفاميا على سبيل المثال فاوض رئيس فرع الأمن العسكري أهالي قلعة المضيق والمناطق المجاورة طالباً منهم التوقف عن تنظيم المظاهرات مقابل السماح لهم بالتوجه إلى الموقع الأثري والحفر فيه بحثاً عن اللقى الأثرية، ومنذ ذلك الحين تتعرض مدينة أفاميا لأعمال حفر عشوائي ونهب منظّم من قبل لصوص الآثار الذين لا يلقون بالاً للطبقات الأثرية وهم يحفرون في عموم القطاعات في الموقع، مع العلم أن الجيش النظامي كان قد أقام في قلب الحرم الأثري حاجزاً يُعرفُ باسم حاجز الآثار، ولم يتدخل عناصره على الإطلاق لمنع اللصوص من الحفر بكامل حريتهم وبشكلٍ فاق فيه عدد الحُفرْ العشوائية كل مواضع التنقيب والقطاعات التي جرى العمل فيها من قبل البعثات الأثرية المختلفة على مدى أكثر من 70 عاماً، وقد أظهرت الصور الجوية وجود أكثر من 14600 حفرة في موقع أفاميا خلال عام 2013 فقط، علماً بأن التنقيب غير الشرعي ما زال مستمراً حتى هذا التاريخ وبدون أن تتدخل أية جهة لمنعه أو الحدّ منه.
ولم يقتصر هذا التنقيب اللاشرعي الممنهج على أفاميا وحدها بل طال العشرات من المواقع والتلال والقرى الأثرية التي تعرّضت لنفس الأضرار، ويمكننا تصنيف هذه الأعمال وتقسيمها إلى أربع فئات:
1- الحفر العشوائي ويمكننا تصنيفه في قسمين:
آ- حُفر ذات أبعاد صغيرة وأعماق بسيطة.
ب- حُفر ذات أبعاد واسعة وأعماق كبيرة تخترق مختلف السويات الأثرية كما هو الحال في مدينة أفاميا، البارة، سرجيلا، وكذلك في العديد من مواقع الكتلة الكلسية في ريف إدلب.
2- عمليات حفر ضمن نقاط محددة يلجأ فيها لصوص الآثار والباحثون عن الكنوز والدفائن إلى استعمال الأجهزة الإلكترونية التي تُستعمل للكشف عن المعادن كما هو الحال في تل حزارين بالقرب من بلدة كفرنبل، فخلال زيارة ميدانية لهذا الموقع الأثري وثّق فريق جمعية حماية الآثار السورية لجوء مجموعة من لصوص الآثار لمثل هذه الأجهزة في مسح التل الذي يعود لعصور قديمة، وعادةً ما تكثر في مثله الكسر الفخارية ولا يحتوي إلا على القليل من المشغولات المعدنية.
3- عمليات حفر منهجية ضمن مربعات تشبه إلى حدٍ بعيد ما يقوم به المتخصصون من المنقبين الآثاريين ضمن قطاعات يتم تحديدها والتنقيب فيها ودراستها كما هو الحال في موقع دورا أوربوس حيث قام أهالي القرى المجاورة بفتح المربعات في الموقع والتنقيب فيها بشكل يومي، ومن ثمّ الانتقال إلى مربعات جديدة والمباشرة فيها وذلك بعد الانتهاء من المربعات السابقة وهكذا دواليك.
4- الحفر باستخدام الجرافات والآليات الثقيلة التي تؤدي إلى تخريب كامل الموقع وإلحاق الأضرار الجسيمة به خلال فترات زمنية قصيرة كما هو الحال في قلعة الرحبة وتل السن على الفرات، ومغارة المزوّقة في ريف إدلب، وتل العبر في ريف حلب وفي موقع تدمر وكذلك في العشرات من المواقع الأخرى.
مع مرور الوقت واحتدام المعارك بين قوات النظام وقوات الجيش الحر، شهد العديد من المواقع الأثرية الاستراتيجية معارك ضارية بين الطرفين، وهذا ما تطلّب زيادة التحصينات العسكرية في التلال والمواقع من قبل قوات النظام المتمركزة فيها من أجل حماية الدبابات والمدفعية وراجمات الصواريخ وغيرها مما أدى إلى تخريبها على نطاق واسع جداً كما هو الحال في تل عثمان بالقرب من أفاميا، وبناء سواتر ترابية لحاجز الآثار في أفاميا نفسها، وشق طريق ترابية في تلة قلعة المضيق بعد السيطرة عليها، وحفر الخنادق وإقامة السواتر الترابية وشق الطرقات وتجريف الكثير من بساتين الواحة التاريخية الأثرية في مدينة تدمر بالإضافة إلى تمركز الدبابات والمدافع وراجمات الصواريخ بالقرب من المدافن البرجية.
غير أن استعمال البلدوزر كأداة لحفر التلال والمواقع الأثرية من أجل غايات عسكرية بحتة لم يقتصر على قوات النظام فقط، بل إن بعض كتائب المعارضة قد قامت أيضاً باتخاذ التلال الأثرية كمراكز تحصّن وتمترس وذلك بعد طرد قوات النظام من المنطقة، كموقع إيبلا على سبيل المثال، غير أنّ الاستعمال الأخطر للجرافات يتمثل باستخدامها من قبل تنظيم داعش الذي قام ولا يزال يقوم بهدم عشرات المقامات والمقابر الصوفية في ريف دير الزور والرقة وريف حلب الشرقي.
تساهم عمليات الحفر غير الشرعية بمختلف أشكالها بتخريب المواقع الأثرية التي طالها النهب، لأن أعمال اللصوص تهدف أساساً إلى العثور على أية لقى أثرية وذلك من أجل بيعها والتربّح من وراء ذلك، غير عابئين بمدى التخريب الذي يتعرض له الموقع والضرر الهائل الذي يتجلى بتدمير الطبقات بما تحتويه من كمٍّ هائل من المعطيات التاريخية والأثرية ذات الأهمية العلمية التي يتم فقدانها نتيجةً لهذه الأعمال غير المسؤولة، فأهمية أي موقع أثري وكذلك كمّ المعلومات التي يمكنه تقديمها لا تأتي فقط من القطع واللقى الأثرية المكتشفة فيه والتي تشكل جزءاً من المصادر التي يتم الاعتماد عليها في دراسة هذا الموقع ومحاولة فهمه، لأن السويات الأثرية بكل ما تحتويه من بقايا معمارية وكسر الفخارية ومواد عضوية.. إلخ، تُعتبر المصدر الوحيد والمتكامل الذي يساعد الآثاري على ربط مختلف العناصر مع بعضها البعض للوصول إلى نتائج سليمة خلال دراسته للموقع. لقد تعرّضت بعض المواقع إلى أضرار هائلة بشكلٍ لا يمكن تعويضه وأصبحت غير صالحة لأية أعمال أثرية وتنقيبات علمية في المستقبل، كما هو الحال في بعض القطاعات في مواقع دورا أوربوس وأفاميا التي تم تخريب السويات الأثرية فيها على نطاق واسعٍ جداً.
إن التراث هو وعاء للذاكرة الإنسانية بشكليها المادي والمعنوي، يحفظ خصائصها ويعبّر عن شخصيتها وأصالتها ويحدد آفاق مستقبلها، وهو السجل الأمين لهوية المجتمع، وإن عدم وعي أي مجتمع بالقيمة الحضارية لتراثه، مع غياب التشريعات القانونية وكذلك غياب القائمين على تنفيذها، هو من أهم الأسباب المؤدية إلى نهب التراث وتخريب المواقع التاريخية وازدهار تجارة الآثار المنهوبة، وبالتالي فإن مسؤولية الحفاظ على التراث المادي واللامادي دون تغيير يمس جوهره هي مسؤولية المجتمع أفراداً وحكومات وتقع على عاتقه مهمة الحفاظ على الآثار وعدم إتلافها والحيلولة دون نهبها وسرقتها، فتراثنا هو ثروتنا المتراكمة التي نملكها اليوم وغداً، وإن فقدان أي عنصر من عناصره يعد فقداً لجزء من الهوية الوطنية وخسارة كبرى لقيمة متميزة لا تقدر بثمن ولا تعوضها الماديات.
التعليقات متوقفه