مؤسّسات الدولة ومديرياتها تترنح في ظلّ الإهمال و”التشبيح” في اللاذقية – بهيجة عبد الله
“لما نزل علينا الصاروخ ما خفت متل اليوم.. الصاروخ أرحم” هكذا قال المريض الذي أُسعف إلى مشفى الأسد الجامعي في مدينة اللاذقية بعد أن قفز عليه جرذ من السقف المستعار أثناء وجوده في العناية المشددة إثر إصابته بشظايا صاروخ سقط قرب منزله في اللاذقية، كان مشفى الأسد الجامعي أو المسلخ الجامعي كما يحب الطلاب الأطباء المتدربون تسميته هو الخيار الأول أمام من يتم إسعافه في مثل هذه الحالات ليخرج المريض بعدها من المشفى وقد نجا بأعجوبة ليس من شظايا الصاروخ فقط، بل من العجائب التي تحصل داخل جدرانه.
هذه هي حال “المسلخ الجامعي” وحال الكثير من مؤسسات الدولة في مدينة اللاذقية التي ضاعت، أو اوشكت أن تضيع في ظل الإهمال الممنهج و”التشبيح” الذي أصبح حالة شبه طبيعية.
داخل المسلخ الجامعي
لن تتأخر أثناء جولتك في قسم الإسعاف التابع للمشفى في اكتشاف مدى سوء الخدمات المقدمة وقلة النظافة والاستهتار في التعاطي مع المرضى؛ فوجود الدم في الأرض أمر عادي في ظلّ إهمال عاملات النظافة وتسيبهن، التعقيم تحصيل حاصل وأحياناً لا يحصل أبداً، من الممكن أن تجد عجوزاً يتجول وهو يحمل قثطرته البولية بيده لأنه لم يجد أحداً في قسم التمريض يلبي حاجته، وطبعاً ثمة غرف محجوزة بشكل دائم لمدير المشفى وأقاربه إضافة إلى شبيحة بيت شاليش وبيت مخلوف الذين يعتبرون ضيوفاً دائمين في المشفى لأن مشاكلهم واشتباكاتهم لا تنتهي، أما من لا يملك واسطة تخوّله الوصول لتلك الغرف فيتم تحويله إلى المشفى الوطني الأكثر سوءاً وفساداً أو يتم نصحه بالذهاب إلى مشفى خاص لا يستطيع تغطية كلفة علاجه فيه.
يقول أحد أطباء المشفى للغربال: إن حوادث الوفاة بسبب الأخطاء الطبية لا تُحصى ودائماً تمر دون عقاب أو تحقيق يُذكر، الفوضى تعمّ المشفى بطوابقه كافة، وعندما تحصل الاشتباكات في الريف الشمالي للاذقية بين عناصر الجيش النظامي وقوات الثوار لأن أعداد المصابين تكون أعلى من طاقة المشفى بكثير ويمكن أن تصل حالات شبه منتهية ولا أمل منها ويخاف الطبيب وقتها من التعامل مع الشخصيات المهمة لأن إخراج المسدس وإطلاق النار أمر سهل وهين بالنسبة لهم ومدير المشفى لا حول له ولا قوة فهو مشغول فقط بمناكفة الأطباء الجدد وجلدهم بالواقع المفروض.
المصاعد في “المسلخ الجامعي” معطلة دائماً ولا يوجد سوى جهاز تخطيط واحد يتم نقله بين عدة طوابق سيراً على الأقدام وباستخدام السلالم كما أن كل طبيب ملزم بإحضار جهاز قياس الضغط الخاص به لأن المشفى غير ملزم بتأمين مثل هذه الأجهزة للأطباء. مخبر معروف بالنتائج المشكوك بأمرها لأنه يفتقد لكثير من المواد الأساسية اللازمة للتحاليل. المريض يتحمل بالإضافة إلى ذلك كله جزءاً كبيراً من قيمة علاجه لاسيما في مجال شراء الأدوية التي تفتقر الصيدلية الخاصة بالمستشفى إلى معظمها وأبسطها كالسيتامول على سبيل المثال.
يصف الطبيب في “المسلخ الجامعي” الذي تتحفظ الغربال على ذكر اسمه للضرورات الأمنية: نعيش في حالة فوضى تامة إذ لا يوجد حسيب أو رقيب والتعيينات بالمشفى تتم بناء على الواسطة والمحسوبية وسط غياب أي اعتبار للخبرة العلمية أو العملية وممرضاتنا معروفات بطباعهن السيئة ومزاجيتهن بالتعامل مع المريض الذي لا حول له ولا قوة، في كثير من الأحيان يتبادر إلى أذهاننا أن الخصخصة هي الحل فالوضع بات لا يُحتمل وازداد سوءاً مع بدايات الثورة ليس بسبب قلة المخصصات المالية لكن بسبب غياب الرقابة بشكل تام، حيث أصبح كل “شبيح” يتصرف وكأنه زعيم دولة مستقلة، لدرجة أنه في مرة من المرات هددنا أحدهم بنزع أمان القنبلة اليدوية في حال توفيت والدته.
المصالح العقارية والنفوس أيضاً
لا يقل الوضع في باقي مؤسسات ومديريات الدولة في اللاذقية سوءاً عن حال “المسلخ الجامعي” اذ لا تخلو المصالح العقارية المتخصصة بتسجيل العقارات ونقل ملكيتها على سبيل المثال من فضائح وقضايا فساد تبدأ بعمليات نقل ملكية للشقق الموجودة في الأماكن التي تسيطر عليها المعارضة بعد أن فرّ أصحابها ومن دون علمهم، وصولاً الى فضيحة المسابقة الأخيرة التي أُقيمت لتعيين عدد من الموظفين من مختلف الشهادات والدرجات الوظيفية في دوائر الدولة لتأتي النتيجة بتعيين أخ مدير المصالح العقارية في اللاذقية جهاد حاطوم وخطيبته وبعض أقاربه إضافة الى أقارب بعض مدراء الدوائر كمدير الزراعة منذر خيربك ونجل مدير التأمينات الاجتماعية في اللاذقية.
علاء، أحد موظفي المصالح العقارية يؤكد للغربال أن المديرية تحولت إلى شركة تجارية خاصة بأصحاب النفوذ بها ولم تعد مؤسسة حكومية لها هيبتها، فأي شخص لديه معرفة عادية بطرف قادر على الوصول للمدير العام يستطيع توظيف معارفه مقابل مبلغ لا يزيد عن 300 ألف ليرة سورية، ناهيك عن سلطة معقبي المعاملات وقدرتهم على التحكم بعدد كبير من الأمور داخل المديرية، كان آخرها توظيف أحدهم لابنه كنائب رئيس شعبة وهو غير مؤهل علمياً، كما أن أصحاب النفوذ في المصالح العقارية أصبحوا يشكلون مافيا حقيقية تتحكم بأسعار كل شيء في السوق العقارية وترتبط بالسماسرة العقاريين ليكون المواطن هو الضحية الوحيدة لهذا الجشع الذي لا ينتهي.
أما دائرة النفوس والقيد المدني فهي واقعة تحت سيطرة الأمن والمخابرات السورية وتم تسخيرها بالكامل لابتزاز المواطنين النازحين من المحافظات السورية الذين فقدوا أوراقهم الثبوتية هناك قبل نزوحهم.
هنا يأتي دور معقبي المعاملات والأكشاك التي تعمل خارج المديرية لإغراء المواطنين بتأمين كل ما يلزم من أوراق زواج وطلاق وإصدار بطاقات هوية تضع فيها الاسم الذي يعجبك دونما اهتمام فالغاية هو قبض المعلوم الذي يوفره المواطن صاغراً فلا وسيلة أمامه إلا الرضوخ، والثمن يتم تقاسمه ما بين الموظف والسمسار وبالطبع رجال الأفرع الأمنية الذين يشرفون على كل شيء.
مخالفات البناء… سرطان يلتهم المدينة
لن تتأخر كثيراً حتى تلفت نظرك بشكل واضح أثناء تجولك في اللاذقية المخالفات السكنية التي باتت موجودة في كل مكان في المدينة وكله تحت شعار: نحن ذوو الشهداء! إنها الجملة السحرية التي يستطيع بها المخالف إسكات أكبر دورية لضبط هذه المخالفات والسيطرة عليها وفي كثير من الأحيان يتم إشهار الأسلحة وتحدث معارك لا تتدخل بها الشرطة إطلاقاً للحفاظ على حقوق الملكية للمخالفين غير المثبتة عقارياً إلا بطريقة إطلاق النار على الدوريات الأمنية.
“أعتقد أن هذه المشكلة هي العار الوحيد الذي لحق بالمدينة جراء الأزمة لأن آثارها ستدوم لعدة أجيال لاحقة” هكذا يصف محمود أحد المتضررين، أثار المخالفات في الحي الذي يسكنه في اللاذقية مشيراً إلى أن هدمها بات أمراً شبه مستحيل لأن عددها وانتشارها تجاوز الحد المعقول كما أن القائمين عليها هم شبكة واسعة تبدأ من مجلس مدينة اللاذقية ولا نعرف أين تنتهي.
ويتابع قائلاً: يمكننا القول إن غضّ النظر عن المخالفات هو طريقة لإسكات أهالي القتلى من شبيحة وجنود النظام الذي غض النظر عن عمليات التعفيش التي اشتهروا بها، فهو الآن بمؤسساته المختلفة يغض النظر أيضاً عن مخالفاتهم السكنية التي يسطون فيها على مساحات متعددة من أراضي الدولة أو الارتفاع بعدد الطوابق أو البناء على أراضٍ زراعية وغير ذلك من التجاوزات التي لم تعد مقبولة نهائياً في ظل الوعد بإصدار المخطط التنظيمي للمدينة الذي بات حلماً للمهندسين العاملين في البناء والتشييد لأن وجود آفة مخالفات البناء كفيل بتعطيل أي مشروع تجميلي للمدينة لاسيما أن نسبة الإقبال على شراء الأبنية المخالفة عالية جداً على الرغم من ارتفاع أسعارها ومخالفتها لشروط البناء، لكن السمسار سرعان ما يؤكد للمشتري أن فرزها وترخيصها هو مسألة وقت طالما أن هناك متنفذون وأسماء كبيرة تغطي على الموضوع وتأخذ حصتها منه.
هل من حلول؟
الفوضى والفساد هما العنوان العريض لحال المؤسسات الحكومية العاملة تحت سيطرة النظام في اللاذقية التي يقول عدد كبير من سكانها المؤيدين منهم والمعارضين إنهم مجرد أدوات بيد سلطة لا ترحم ولا تأبه نهائياً لمصيرهم خاصة مع فرض أسعار جديدة للمواد الأساسية من غاز ومازوت وخبز مما ينذر أيضاً بحالة جديدة من النهب وتحكم المسيطرين على السوق السوداء بلقمة المواطن الذي أصبح مغلوباً على أمره ولا يملك خيارات كثيرة لتحسين وضعه فإما الهرب خارج البلاد أو الموت مقاتلاً ضمن صفوف قوات النظام، مما يُنذر بتفاقم المأساة وتدهور الأوضاع دون وجود أية حلول في الأفق.
التعليقات متوقفه