الثورة السورية بين المبدأ والواقع – منال ريّس
مع الذكرى الرابعة للثورة تمتلئ صفحات السوريين على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات متضاربة بين تشنيع ما وصلت له الثورة وتمجيد تضحيات أبنائها، بالتزامن مع اختيار شريحة كبيرة من أنصارها الأوائل الالتزام بالصمت، ومحاولات العديد التبري كلية من الحقبة التاريخية الكاملة التي تضمنتها واسترجاع الزمن “الجميل” قبلها (أيام ما كنا عايشين)!
وسط هذه التعليقات يبرز السؤال: ماذا يعني حقاً هذا التفاوت في المواقف وتغيير القناعات؟ الثورة السورية كحدث طبيعي اجتماعي تراكمي هي مبدأ لا يحتاج انتظار النتائج العاجلة ولا الآجلة للاقتناع بحتمية حصوله، مثلها مثل المبادئ الأخلاقية التي لا تحتاج لالتزام الضمير بها أن تخضع للحسابات النفعية الشخصية، فالصدق والتفاعل مع قضايا المظلومين ومسلوبي الحقوق هي مبادئ لا تحتاج انتظار النتائج العملية ليتبناها المرء أو ينبذها، الميزان في ذلك هو الضمير الإنساني فقط من غير أي داعٍ لحجج وبراهين مضادة.
وكغيرها من هذه المبادئ الكبرى المؤثرة في عمق الجماعات والأفراد، استطاعت الثورة السورية أن تولد لدى بعض النفوس التي انفعلت بها ذاك الإحساس العميق المشابه لتجربة الانفعال الوجداني بالمقدس: تجربة الأسمى، الأجمل، الأعمق إنسانية، الأعظم تضحية، الأكثر نبلاً وعطاء. لهؤلاء كانت الثورة شعلة حياة جديدة، حين لمحوا فيها مصدراً مولداً للجمال: جمال الانعتاق من القيد مقابل الإخضاع بالخوف، جمال أن تتمايل الجموع والأكتاف تسند الأكتاف انفعالاً بأهازيج تقدس الوطن منفرداً ومستقلاً عن شخص من ركب الوطن وسخره لمصلحة عائلة، جمال التضحية والإنسانية واللهفة على الجريح والجائع والمنكوب مقابل وحشية الاعتقال.
أما في وجهها الحركي الذي تترتب على مجرياته النتائج العملية فالثورة هي حالة مؤقتة ناتجة عن انفراط العقد الاجتماعي من خلال عمليتي هدم شرعية السلطة القائمة، وبناء شرعية جديدة للوصول بها مرة أخرى لرأس الهرم.
غير أن هذه العملية واتجاه سيرها ونتائجها مرتبطة بكل اللاعبين المؤثرين على دفتها، والخلل البشري والحضاري والتاريخي الرهيب الذي أدى حتى الآن لنتائج كارثية، سيصحو العالم بعد فوات الأوان على فداحتها حين يسأل نفسه كيف أنه لم يتمكن رغم تسريب آلاف صور المعتقلين الذين قضوا تعذيباً في سجون نظامٍ مجرم، ألا يملك وسيلة لتخليص هؤلاء الأبرياء من كل هذا العذاب.
ستكون صدمة العالم تجاه معاييره الإنسانية مشابهة للصدمة التي صحا عليها إبان الحرب العالمية الثانية مع فقدانه لما يقارب 2.5% من سكان الكرة الأرضية. الصدمة التي أعقبها إنشاء الأمم المتحدة كهيئة تسهم في تقارب الدول وتعاونها الدبلوماسي لمنع مثل تلك الصراعات الأممية الكارثية.
كيف ستكون ردة فعل العالم عندما يصحو على كارثة إنسانية أخرى شارك في تعميقها ضعف القواعد الدولية التي لم تستطع حماية المدنيين وإيقاف إرهاب سلطة مارست القصف والكيماوي والتجويع والاعتقال والتعذيب والعقاب الجماعي.
من ينتظر لحظة الندم العالمي تلك قد يقضي قبل أن يشهدها، ومن قرر أن يكمل مدفوعاً بضميره الإنساني سيكمل ولن ينتظر النتائج. ومن ولّدت الثورة بداخلهم تلك المبادئ السامية سقط النظام عندهم وإن لم يسقط بعد. وهم يكملون طريقهم بذات النفس المطمئنة، شقت الطريق أم سهلت. هم رشفوا الكأس حتى ثمالتها. لا يوجد لديهم ما يخسرونه، ولا يعنيهم بعدها مكاسب مفترضة أو منتظرة.
التعليقات متوقفه