كيف قتلت الإغاثة إرادة السوريين النازحين واللاجئين – سما الإبراهيم
الظروف الكارثية التي عاشها السوريون خلال السنوات الماضية دفعت نصف الشعب السوري إلى النزوح ليحصل معظم هؤلاء النازحين على المعونات الإغاثية التي حولت الحاصلين عليها إلى أناس غير فعالين في المجتمع فساهمت مع الحرب في تعطيل إرادتهم وتدمير حاضرهم ومستقبلهم.
مع تدهور الأوضاع المستمر في سوريا منذ أكثر من ثلاث سنوات تأسست أعداد كبيرة من المنظمات والجمعيات التي قامت بتقديم المعونات الغذائية أو المادية أو الطبية, وقدمت هذه المؤسسات معوناتها للسكان بشكل دوري، حتى أصبح تلقي ربْ الأسرة للسلة الغذائية ووقوفه في طابور الانتظار لما يزيد عن ثلاث ساعات أمراً تأقلم معه هو وكامل أفراد أسرته, فتربى أطفاله على هذا المشهد واعتادوا الحصول على المعونات بدون أي مقابل وبدون قيامهم بأي مجهود فكري أو عضلي.
لا شك أنه من الضروري تقديم المساعدة المادية للعائلات التي اضطرت إلى النزوح عن أماكن سكنها أو التي تدهورت أوضاعها المعيشية، خصوصاً في الفترة الأولى لنزوح العائلات أو تدهور أوضاعها، إلا أن هذا الدعم حاز صفة الديمومة، ما خلق مشاكل كبيرة، منها أن تأتي عائلات جديدة بحاجة لمساعدة إسعافية فترفض الجمعيات تسجيلها، وتقديم العون لها، بسبب الضغط الكبير على الجمعيات، نتيجة التزامها بتقديم مساعدة شهرية لعدد كبير من العائلات، لتفقد الإغاثة في هذه الحالة معناها الإسعافي ويُحرم مستحقوها منها، وفقدت كذلك جدواها وتحولت الى آفة اجتماعية تسبب للمجتمع أضراراً تفوق أضرار الحرب والتدمير.
فهل كان على الجمعيات والمؤسسات الإغاثية أن تستمر في تقديم المعونات لمدة طويلة، أم كان عليها التركيز على الدعم الإغاثي الإسعافي فقط والذي يقدم المساعدة للعوائل في أول ستة أشهر من أزمتهم وبالتالي مد يد العون لهم لمدة محددة قبل أن تبدأ بالتركيز على إعادة تأهيلهم، بعد استقرارهم، لينخرطوا في الحياة مجدداً ويبدأوا رحلة إعادة بناء أسرتهم.
إيجاد إجابات لهذه الأسئلة ربما يوفر حلولاً للمشكلة التي وصلت اليها المدن السورية من حالات تشرد وتسول للأطفال والنساء بسبب التهجير أو فقدان المعيل ورفض عدد من هؤلاء لفرص العمل والتملص من أي محاولة لتشغيلهم.
آفات تنخر المجتمع
تقول السيدة أمينة دياب، وهي من سكان حي الإنشاءات بمدينة حمص، في حديث للغربال: أسكن في منطقة تعتبر راقية في حمص, وأقود سيارة لا بأس بها، أصبح نزولي من منزلي لشراء حاجياتي أمراً محبطاً ومزعجاً لي, فقد اعتدت في السنتين الماضيتين على روئية المتسولين في أحياء المدينة، مع لحظة نزولي من سيارتي أبدأ بمشاهدة النساء المتسولات اللاتي يبكين ويطلبن المساعدة, كنت أعطيهم دائماً ولكن الوضع تفاقم ليصبح غير مقبول.
تتابع السيدة أمينة: منذ فترة ترددت إلى باب منزلي امرأة في الثلاثينيات من عمرها, كانت كل يوم تدق الباب وتطلب مساعدة لإطعام عائلتها التي نزحت من الأحياء المدمرة بحمص, كنت أعطيها ما أقدر عليه, بعد أن تكررت زياراتها لمدة طويلة توقفت عن إعطائها المال والطعام وعرضت عليها أن تعمل لدينا في البناء الذي نسكن به بتنظيف الدرج والممرات ثلاث مرات في الأسبوع مقابل أجر لا بأس به, وطلبت منها أن تبدأ بالعمل اعتبارا من اليوم التالي.
تواصل السيدة أمينة حديثها قائلة: لم تعد الامرأة في اليوم التالي، لم تبدأ العمل، ولم تطلب المساعدة مجدداً, ومنذ ذلك اليوم صرت أطلب من المتسولين أن يبحثوا عن عمل، لأقابل حينها منهم بالشتم والدعوات بالتشرد والموت!
محاولات العلاج ذات أثر محدود
الآنسة سلام عبد الكريم التي تعمل في مجال الإغاثة توافق السيدة أمينة في الإشارة إلى الآفات الخطيرة التي أصابت المجتمع مؤخراً، سلام عبد الكريم تعمل كناشطة في المجال الإنساني دون أن تنتسب لأي جمعية أو مؤسسة، تقول للغربال: تنبهنا وأصدقائي لهذا المشكلات منذ مدة تزيد عن سنتين ونصف حين لاحظنا تواكل العوائل وتقاعس الرجال في البحث عن عمل, ولنساهم في مساعدة العوائل المنكوبة اتبعنا منهجاً جديداً في العمل حيث قمنا بتخصيص صندوق للتشغيل، الغاية منه جمع الأموال وتقديمها للعوائل التي ترغب بفتح مشروع صغير جداً يضمن لها دخلاً يغطي مصروفها الشهري, بحيث يختار رب الأسرة أو المستفيد المشروع بعد الاتفاق معنا على خطة لإعادة المبلغ الذي نقدمه له، ليبدأ مشروعه بالتقسيط المريح على المدى الطويل.
أكدت الآنسة سلام أن هذا الطريقة كفيلة بأن تشعر العوائل بالمسؤولية أكثر تجاه المشروع وبالتالي تقل احتمالية أخذ العائلة للمبلغ وصرفه دون الاستفادة منه في التشغيل, كما أنها أشارت إلى أن هدف هذا المشروع هو عدم تقديم مساعدات مادية كاملة ومباشرة للعائلات لأن ذلك سيعني العودة لنفس مربع تقديم إغاثة للعائلات وبالتالي إيقاعها في حالة التواكل مجدداً.
تعتبر الآنسة سلام أن هذه الخطة كانت واعدة ولكنها تشير إلى أن الفريق الذي تعمل به، حين دخلت الخطة حيز التنفيز، صُدم برفض العائلات المحاولة للانطلاق في مشاريع صغيرة بحجة عدم قدرتهم على فتح أي مشروع كسوبر ماركت صغير أو شراء آلة خياطة وتشغيلها، فرفضوا هذه الأفكار فورا متذرعين بحجج مختلفة.
تشير سلام إلى أن الفريق حين لاحظ سلبية أغلب المحتاجين تجاه الفكرة، أعطاهم مهلة ثلاثة أشهر وقطع بعدها عنهم المساعدة المادية بالتدريج, موضحةً أن أربعة فقط من العائلات التي طلبنا منها العمل أعطتهم نتائج جيدة وأعادت لهم كامل المبلغ بعد مدة تتراوح بين الستة أشهر والعام.
تضرب سلام مثالاً على العائلات التي نجحت عائلة الآنسة غالية محمد التي تعيش مع والدتها المريضة، فتقول للغربال: لقد اعتدنا على تقديم أجار المنزل لغالية ووالدتها, كان نشاط غالية ملفتاً، عندما أخبرناها عن مشروع التشغيل، رتبت مشروعها الخاص وفتحت مكتبة للقرطاسية بشراكة مع إحدى صديقاتها في أحد أحياء حمص, قدمنا لها نصف رأس المال اللازم للمشروع وبدأت العمل, واليوم هي صاحبة المكتبة وتعمل في نفس الوقت كمتطوعة في الهلال الأحمر وتقوم من خلال عمليها في المكتبة بكسب راتب شهري جيد تدفع به أجار المنزل وتشتري به أدوية والدتها.
المبادرات الشخصية تلعب دوراً في إيجاد الحل
الكثير من النازحين الذين يعتمدون على الإغاثة في معيشتهم يتذرعون بعدم وجود عمل أو عدم القدرة على العمل في ظل الظروف السيئة التي يعيشونها، عدد قليل منهم استطاع التغلب على ذلك، كان منهم الشابة مروة محسن التي قالت للغربال: أنا أعمل في بيع البوشار للأطفال في حمص، أجلس كل يوم لمدة تزيد عن ست ساعات خلف هذه الطاولة الصغيرة وأبيع “البوشار” والبسكوت لأطفال الحي, أواصل عملي بالرغم من مهاجمة الكثيرين من سكان الحي لي، يطلبون مني الجلوس في المنزل لأنه من العيب أن تعمل شابة في بيع “البوشار”، لم ألتفت لكلامهم، هذا العمل يؤمن لي ثمن الخبز وبعض الحاجيات الاساسية لعائلتي التي فقدت أخي الذي كان معيلها الوحيد، ولم يعد فيها من يستطيع العمل سواي, فهل ألجأ إلى ذلْ الجمعيات والمؤسسات الإغاثية أم أطلب المال من المارة أم أبيع “البوشار” للأطفال بكل كرامة.
السيدة كوكب ريحاوي تقول للغربال: عمري أربعون عاماً ولدي إبن معاق بسبب إصابة مع قوات الثوار وطفلة في المنزل وأنا معيلتهم الوحيدة, أعيلهم دون مساعدة خارجية سوى السلة الغذائية التي آخذها من إحدى الجمعيات الإغاثية, كل يوم أجمع طلبات الخبز من الحي وأجمع بونات السكر والأرز وأقف في طابور تسليم البونات وأعود وأوزعها على أصحابها ويعطوني أجرتي على ذلك, وبذلك لا أحتاج لأمد يدي لأحد أو لأشعر بذل العوز.
قمنا في الغربال بالبحث عن فرص عمل شاغرة، لتلمس حقيقة صعوبة إيجاد عمل بحمص، توجهنا بالسؤال لطبيبة التخدير زينة دروبي التي قالت لنا: أعمل في ثلاث مشافي مختلفة في حمص وأرى معاناة المشافي في إيجاد ممرضات يعملن في المشافي والمستوصفات مع أن راتب الممرضة ذات الخبرة جيد جداً بغض النظر عن المبالغ الإضافية التي تحصل عليها الممرضات كشكر من العائلات لهم على رعاية مرضاهم, مع العلم أن المشفى لا تطلب سوى شهادة خبرة لمدة 3 أشهر لتقبل توظيف الممرضات.
خلق فرص عمل هو العلاج الحقيقي
استكمالاً للتحقيق تواصلنا مع شخصين يعملان على خلق فرص عمل جديدة للشباب السوريين في مدينة حمص، تقول السيدة سمر حاج محمد للغربال: بعد أن قمت أنا والسيد محمد توفيق طيار بدراسة مشروع تعليمي يستهدف كل من يرغب بتعلم مهنة التمريض وحيازة شهادة خبرة ليستطيع العمل في هذا المجال، وبعد أن درسنا احتياجات المشافي من الممرضات، بدأنا بالتنسيق مع جهة مانحة للشهادة، بدأنا باستقطاب الراغبين بالاستفادة من المشروع، بحيث تم التركيز على الفتيات والشبان العاطلين عن العمل والمحتاجين لمساعدة مادية, وعندما سألنا هؤلاء عن رغبتهم في التدرب رفضو بحجة أنهم لا يحبون هذا المجال أو لأسباب أخرى مثل عدم قدرتهم على ترك المنزل وغيرها من الأسباب الغير مقنعة، رغم ذلك كان لدينا أكثر من أربعين متدرب في الدفعة الأولى، بعض الشبان المترددين في البداية تشجعوا حين علموا أن اقارب لهم تمكنوا من الحصول على العمل بعد حصولهم على التدريب.
وفي الواقع هناك الكثير من المبادرات المشابهة التي سع القائمون عليها إلى تأهيل الشباب وتوفير فرص عمل لهم، كما أنه لا يمكن إغفال الدور الرائد لبعض الجمعيات في مجال التنمية والتعليم حيث تنبهت جمعية الكرامة الخيرية في حمص للمشاكل الناتجة عن التركيز على الإغاثة فقط، فنقلت تركيزها في العام الماضي من إغاثة النازحين إلى ثلاث محاور أساسية هي: 1- المشاريع التعليمية والتي تشغل 45% من مجمل ميزانية الجمعية, 2- المشاريع الإنمائية والتي تشغل 35% من مجمل الميزانية, 3- المشاريع الإغاثية والتي تحوز النسبة الأقل من الميزانية وتصل لـ 20% من مجمل ميزانية الجمعية.
في الجانب الآخر وصلت ميزانية المشاريع الإغاثية في إحدى المنظمات الخيرية في حمص لتشكل 80% من ميزانية الجمعية الكلية، الأمر الذي يعتبر مؤشر هام يعكس عدم ادارك دارة هذه الجمعية لخطر مشكلة البطالة التي تساهم في خلقها عندما تركز على اطعام النازحين بدل من تهيئتهم للانخراط بالمجتمع من جديد ومساندتهم لتأمين مدخول ثابت لهم يحصدونه بعرق جبينهم.
وأجرت الغربال حوارً مع السيدة سعاد، التي طلبت عدم كشف كُنيتها خوفاً من ملاحقة استخبارات النظام السوري لها، وهي مديرة أحد مشاريع التشغيل المميزة في حمص، والذي يهدف لشتغيل النساء ودعمهم بتأمين سوق تصريف لبضاعتهم وكانت إجابات السيدة سعاد على أسئلة الغربال على النحو التالي:
ما هو تقييمك لرغبة السوريين بالعمل في مشاريع تكسبهم مدخول يغنيهم عن المعونات؟
السوريون صنفان، الأول نسبته تتجاوز الستين بالمئة، وهذه الفئة اعتادت البطالة وطابت لها حياة الكسل معتمدة على المعونات الإغاثية، بل أصبحت تطالب بها وتحتج على تخفيض الكميات الممنوحة لها في حال ضعفت موارد المؤسسات الخيرية، وكأن هذه المعونات حق لا يجب الانتقاص منه، الصنف الآخر الذي يشكل نحو أربعين بالمئة من السوريين، هم السوريون الراغبون بالعمل، منهم من تظهر لديه هذه الصفة بعد أن تقدم له فرصة العمل، ومنهم من يبحث عن هذه الفرصة ويعرض خدماته لإثبات نفسه، ويثبت بعضهم أنهم مبدعون كانت الظروف تمنعهم من إظهار إبداعهم.
كيف تصفين تجربتك في تشغيل النساء؟
أحد مشاريعنا الصغيرة كان تشغيل النساء في أحد مراكز إيواء النازحين في حمص بأعمال المطبخ وتجهيز الخضار وتصنيع بعض الأغذية القابلة للحفظ مثل “المكدوس” و”دبس الرمان” وغيره، بعض النساء أبدين رغبة في العمل، حين لاحظن الدخل الجيد الذي كان يعود بالنفع عليهن وعلى عائلتهن، هؤلاء سعين لتطوير عملهن بحيث يزيد دخلهن.
بعدها قمنا بتنفيذ مشاريع صغيرة كالحياكة، حينها اكتشفنا مواهب كثيرة لدى النساء اللواتي بدأن بحياكة الملابس لأطفالهن وتطور عملهن فيما بعد ليصبح مصدر رزق للمبدعات في هذا المجال، وتمت إقامة عدة معارض نتج عنها تأمين ماكينات خياطة ودرزة وحبكة للعاملات مع وجود مشرفة على أعمالهن تقدم لهن النصح والإرشاد.
هل يمكن أن تخبرينا عن قصة نجاح لإحدى العائلات في إيجاد فرصة عمل؟
أعرف ثلاث فتيات في العشرينات خضعن لدورات خياطة وحلاقة للسيدات ثم أبدعن في مجال الخياطة، النشاط هو الصفة المميزة لهذه العائلة، عملهن وحصولهن على دخل جيد شجع الأخوة الشباب في العائلة على الالتحاق بركب العمل والسعي لتحسين وضع العائلة المادي، أصبحت العائلة معتمدة على نفسها بشكل كامل ولا تحتاج لأي معونات.
برايك أيهما أهم، إطعام العائلات وتقديم السلل لهم أم ايجاد فرص عمل لهم؟
عندما تؤمن لشخص سلته الغذائية وفاتورة دوائه فأنت تدعوه للتقاعس والكسل أما عندما تعلمه مهنة أو تؤمن له أساس ينطلق منه إلى عمل مهما كان بسيطاً فأنت تضمن له مصدر رزق يتطور حسب نشاطه وطموحاته دون أن يكون رهينة لأنظمة الجمعيات والمؤسسات الإغاثية وأهوائها.
هل لامست تقاعس إحدى العائلات عن العمل بالرغم من توافر المؤهلات وتوفر فرصة العمل؟
هناك أمثلة كثيرة عن رجال اعتمدوا على ما يؤمنه مركز الايواء لعائلتهم فتقاعسوا وجلسوا في أماكن سكنهم يأكلون ويشربون وينتظرون العطايا، هؤلاء وصلوا لمرحلة كآبة مقلقة، كما أخذوا يلقون باللوم على الحرب وظروف المعيشة الصعبة وتحولوا لأشخاص كثيري المشاكل والمشاجرات يتصفون بالسلبية والحقد على كل المجتمع السوري وخاصة الفئة التي لم تخسر منازلها مثلاً, حيث زاد الشرخ بين النازحين وغير النازحين، ليصبح مجرد وجودك في منزلك وعدم نزوحك سبباً لاتهامك بعدم الإحساس بغيرك ومطالبتك بتنفيذ طلبات المحتاجين، حتى ولو لم تكن لديك القدرة المادية على تقديم المساعدات لهم، برأيي لو كان هؤلاء يعملون لتغيرت أحاسيسهم وانخفضت سلبيتهم وتحسنت نفسياتهم وأصبحوا أناساً نافعين لمجتمعهم.
التعليقات متوقفه