الدلائل العلمية على كون بلاد الشام مهداً للحضارة البشرية – مريم منصور
عام 1998 صدر كتاب بعنوان “Guns Germs and Steel“ للبروفيسور في علم الجغرافيا وعلم وظائف الأعضاء جارد دايموند الأستاذ المحاضر في جامعة كاليفورنيا، في مدينة لوس أنجلوس، في الولايات المتحدة الأمريكية وفاز الكتاب بجائزة “بوليتزر” للأبحاث الموثقة لنفس العام وجائزة أفضل كتاب “أفنتيس” للعلوم. تم بث فيلم وثائقي في برنامج تلفزيوني في حزيران 2005 استناداً إلى الكتاب، أنتجته الجمعية الجغرافية الأمريكية الوطنية.
الكتاب كان بمثابة مفاجأة رائعة، حيث علّل علمياً أسباب كون بلاد الشام مهد الحضارة الإنسانية, وكون الحضارة ما كانت حقيقة ممكنة لولا توفر كل تلك المقومات مجتمعة في هذه المنطقة, قراءة هذا الكتاب بشكل مقارن ومتقاطع مع أبحاث أخرى، ملأتني فخراً بانتمائي لتراب يتمتع بتلك الخصوصية وألقت على عاتقي كما ستقلي على عاتق كل سوري مسؤولية المحافظة على أرث إنساني ينبثق من الطبيعة السورية نفسها, وهو هدية لعالم بأجمعه.
الكتاب يشرح كيف نجحت حضارات المنطقة (بما في ذلك شمال أفريقيا) وغزت الآخرين، مبتعداً تماماً عن أوهام التطور العرقي، الأخلاقي، أو التفوق الجيني الكامن الذي كان قد غزا أبحاثاً سابقة, حيث يعتبر الكاتب أن الفجوات في السيطرة على الارض والتكنولوجيا بين المجتمعات الإنسانية تنشأ عن الاختلافات في البيئة وليس عما ذكر، ولا ينفي ذلك أن هذا التطور المبكر والاستقرار أنتج إيجابياً الاختلافات الثقافية أو الوراثية لإنسان المنطقة، على سبيل المثال، تطور اللغة المعقدة أو تطور القدرة على مقاومة الاوبئة والامراض المعدية المتوطنة، يقول الكاتب أنه يؤكد أن هذه المزايا وقعت بسبب تأثير الجغرافيا على المجتمعات والثقافات، ولكنها لم تكن متوطنة طبيعياً في مورثات الإنسان الأروآسيوي (منتمي الى إحدى القارتين الآسيوية والأوروبية).
وضع المنطقة خلال الانحسار المائي في نهاية اللعصر الجليدي الأكبر
ترافق مع العصر الجليدي مناخ مختلف عما نختبره اليوم في المنطقة حيث انتشرت صحراء قاحلة وقلت نسبة المطر الى أقل من 10 إنش (254 سم) سنوياً، مع انخفاض كبير في درجات الحرارة أجبر الانسان على الاحتماء في سفوح الجبال, حيث انتشرت مناطق مأهولة على طول الوجه الجنوبي من جبال طوروس الواقعة جنوب تركيا حالياً.
تلك المجموعات السكانية لم تكن معتمدة على الزراعة بعد، بل كانت تتمتع بتطور فكري واضح في الأبنية التي تم اكتشافها مؤخراً في جنوب تركيا, في منطقة كيليكيا مثلاً والتي تعود الى نهايات العصر الجليدي.
بعد نهاية العصر الجليدي وحصول التغيرات المناخية اجتمعت عناصر محددة لتميز بلاد الشام عن غيرها من المناطق القادرة على احتضان تجارب الزراعة والاستقرار حول كوكب الارض والتي لم تتحول إلى منبع للحضارة بالرغم من أنها احتضنت وبشكل منفصل تطوراً للزراعة في وقت ما خلال السنوات ال10000 الأخيرة، وهنا برز السؤال الأكبر الذي يقول
المقومات الفريدة لمنطقة بلاد الشام
تجتمع العوامل التالية بالتزامن وبشكل فريد في المنطقة في نافذة زمنية أهلتها لتشكيل نواة الحضارة الانسانية:
أولاً: وجود مجتمعات مستقرة
وجدت مجتمعات جمع والتقاط وصيد مستقرة في منطقة بلاد الشام في وقت مبكر كما توضح عمليات تنقيب تحت الماء قامت بها بعثات أثرية عديدة في المنطقة, هذه المجتمعات كانت تعتمد الجمع والالتقاط والصيد، بسبب توفر الغابات والدفء خلال العصر الجليدي وبسبب تنوع التضاريس الذي جعل الطعام متوفراً طوال العام على ارتفاعات مختلفة كالزيتون, القمح, الحمص, العدس, الشوفان والشعير وهي جميعاً أطعمة ذات نوعية غذائية عالية.
من تلك المواقع تل المريبط الذي تغمره حالياً مياه بحيرة الأسد على نهر الفرات في محافظة الرقة, حيث تطورت مدينة بلغ عدد سكانها 6000 نسمة، لينخفض عدد سكانها خلال العصر الجليدي الأصغر، المدينة عاشت بشكل كامل على الجمع والالتقاط والصيد، مما يوحي بالغنى البيئي الطبيعي, والتطور الفكري الذي سمح بالتنظيم الإداري الذي مكّن هذا العدد الكبير من السكان من السكن بها.
ثانياً: تمتع تلك التجمعات بوقت فراغ لإجراء التجارب
هذه المجتمعات كانت تتمتع بوقت فراغ ناتج عن نوعية الطعام المتوفر الغني بالبروتينات والغني بالسعرات الحرارية, حيث يتمتع الشعير والقمح بمكون بروتيني أعلى مما يوفره الارز, أما حيوانات الصيد كالمعزاة والخروف والابقار الوحشية والغزلان فهي حيوانات ذات حجم كبير قادر على سد جوع عدد أكبر من الناس, وهذه الحيوانات والنباتات تعود أصولها إلى المنطقة ولم تكن متوفرة في أي موقع آخر حول العالم.
مطاردة وصيد معزاة أو غزال قد يستهلك من السعرات الحرارية ما يستهلكه صيد أرنب ولكن كمية السعرات الحرارية التي تنتجها كحيوان كافية لإطعام عدد أكبر من الاشخاص, وهذا يؤدي الى فائض غذائي يتحول الى وقت فراغ يمكّن الإنسان من الدراسة والتجربة العلمية وممارسة الفن.
تمثال العاشقين هو أقدم تمثال في العالم، تم نحته في سوريا، وهو اليوم في متحف التاريخ الطبيعي في بريطانيا, أما اختراع الدولاب فقد غير وجه الحضارة.
ثالثاً: المناخ، الضوء، التنوع الجغرافي ودرجات الحرارة
هذا العامل يعتمد على موقع المنطقة في الكرة الارضية وهو ما يؤثر على توازن الليل والنهار والمناخ، فالتوازن بين طول النهار والليل في هذه المنطقة يوفر مقدار جيد من الضوء، يزيد عن 6 ساعات، في جميع الفصول، مما يساعد على نمو النباتات ويسمح للإنسان بالنشاط من دون الحاجة للإضاءة الصناعية, وهذا ما يمنحه ساعات إنتاج أطول.
كما أن المناخ المتوسطي المعتدل والذي لا يجبر الإنسان على إيجاد مصادر كبيرة للطاقة من أجل التدفئة, أو التحصن أو التنقل هرباً من الفيضان, أو يمنع العمل لعدة أشهر من العام بسبب الحرّ، كما أن وجود صيف جاف وشتاء ممطر يساعد على تنظيم دورة الاثمار والنضج للأشجار المثمرة.
رابعاً: وجود أنواع كثيرة من النباتات البرية القابلة للتدجين
هذه الأنواع المتوفرة بشكل طبيعي وفريد في المنطقة, وتتوفر فيها الشروط التي تؤهلها للتدجين، فالمنطقة تحوي 32 من أصل 56 نوعاً من فصائل الحشائش القابلة للتدجين وذات البذار الكبير (الحشائش هي أنواع الشعير والقمح والشوفان الخ..)، هذه النباتات موسمية وهي قادرة على التلقيح الذاتي مما يجعل تدجينها أسهل، وسبب وجود النباتات ذات البذار الكبير هو التنوع المناخي في الفصول الأربعة ودرجات حرارة شديدة الاختلاف مما يدفع النبات الى إنتاج بذور بعدد أكبر بدل من أنتاج ساق أو أوراق أو جذور، ليضمن النبات بقائه، فالبذور هي ما يضمن استمرار النبات.
هناك معهد لحفظ أمهات النباتات في سوريا برعاية الأمم المتحدة، ذلك لأن سوريا هي أم معظم النباتات في العالم, وهذه حقيقة لا يعرفها الكثير من السوريين الذين لا يرون بأساً في تدمير القليل من البيئة السورية الفريدة إذا دعت الحاجة!
خامساً: وجود أنواع كثيرة من الحيوانات القابلة للتدجين
وجدت في منطقة بلاد الشام كبرى الحيوانات القابلة للتدجين والتي تعتمد اليوم بشكل واسع حول العالم في أنواع وفصائل مختلفة تشمل: الأبقار، الخراف، الماعز، الحصان.
أمهات هذه الحيوانات البرية عاشت جميعها في المنطقة ما عدا الخيل التي تم تدجينها في أوكرانيا, ولكن الحفريات تظهر وجود تبادل تجاري مع حوض البحر الأسود يعود الى الحضارة النتوفية مما ساعد على وصول الحصان المدجن الى المنطقة في وقت مبكر.
سادساً: الخبرة و التكنولوجيا
الوقت الفائض الذي يتيحه إنتاج الغذاء بنوعية وكمية كبيرة واستثمار هذا الوقت بالتجارب التي أنتجت استكشافات أدت الى تطوّر خبرات الإنتاج والتخزين وتطوير صناعات متنوعة وتقنيات ري لأول مرة في العالم.
وفرت هذه التطورات أساساً لارتفاع الكثافة السكانية في المستوطنات، والتخصص المهني والتنوع الحرفي، ونشوء التجارة، وتنمية الفن التشكيلي والعمارة، والثقافة، وتشكيل الإدارات المركزية والتنظيمات السياسية والأيديولوجيات الهرمية، ونُظم من المعرفة التجريدية، وهي جميعاً تشكل أبرز مكونات الحضارة.
سابعاً: الموقع المتوسط على المحور القاري الأطول
موقع سوريا ونظامها البيئي النادر في مركز أطول محور قاري ممتد من الشرق الى الغرب، حيث يتشابه المناخ العام والبيئة وطول النهار، لعب دوراً رئيسياً في انتشار زراعة المحاصيل وتربية المواشي والمعرفة المتعلقة بالإنتاج سريعاً في العالم القديم، وهذا كان أول لبنة في تراث سوريا ودورها الحضاري الخالد، أقدم التجارب في التدجين و الزراعة تم توثيقها في تل الحريري على نهر الفرات, و في تل أسود.
لم يكن من الممكن تصدير النباتات المدجنة والحيوانات المدجنة والتقنيات الخاصة بإنتاج وتخزين الطعام, من دون نواة حضارية تتكون من نظام متكامل متعلق بأسلوب حياة معقد وحضارة متكاملة نشأت ونمت في سوريا القديمة وكان من إبداعاتها الدولاب والمحراث والتعدين والكتابة والأنظمة الفلسفية و القانونية المعقدة.
هذه النواة نمت بأساليب مختلفة حولة العالم واغتنت بالإضافات من كل بقعة في الأرض، ليبقى على عاتق الإنسان السوري مسؤولية المحافظة على حاضنة النواة الاولى, ومن هنا تنبع أهمية المحافظة على سوريا بكل جوانبها إنساناً وبيئة وتراثاً.
التعليقات متوقفه