مذكرات لاجئ: يوم الحشر في إزمير – هبة عز الدين
اجتمع الناس في حدائق مدينة أزمير وعلى الأرصفة وفي الشوارع وفي المساجد يحملون حقائب سوداء توحي للناظر بظلمة الأيام التي أجبرتهم أن يحملوا وطنهم فوق ظهورهم ويمضوا. وجوه شاحبة كمساءٍ عقب مجزرة، لا شيء يقيتهم سوى وعود السمسار الكاذبة. هناك، يقيّم الآدمي كراكب بلم أو يخت، وما أدراك ما اليخت، قارب خشبي مخصص لتحسين شروط الموت. حول أولئك المساكين تطوف ثلةٌ من عبّاد اليورو، كمن سلخَ ضحيتهم وراح يطوف حولها. يالسعدي، لقد وجدت سمساراً قال أنه لم يسبق أن ماتَ معه سوى خمسة أشخاص، هه كدع والله!
لكن لابد من مكتب تأمين، من أجل الحلال والحرام. في مكتب التأمين تشعر أنك في سوق نخاسة، نخاسة من نوع آخر يتساوى فيها الرجال والنساء، نعم لطالما طالبنا بالمساواة، ها نحن الآن نحصل عليها. لقد حان موعد الذهاب للنقطة، أنحشرنا نحن الخمسة والأربعين مهاجراً في “فان” معد لسبعة أشخاص أصلاً، كان السمسار قد أخبرنا مسبقاً أنّ النقطة تبعد 10 دقائق فقط. مضت الساعة الأولى ولم نصل، وعرق الرجال يكاد يخنق المكان وصعوبة تنفس الأطفال تشعرك كأنك ذاهب لفرع فلسطين. أما أنا فكنت محظوظةً بأني وجدت نفسي قرب النافذة الصغيرة الوحيدة في سيارة “الفان”، هناك كنت أستطيع التفس قليلاً. في آخر “الفان” كانت طفلة ذات أربعة أعوام تشهق آخر أنفاسها، طلبت من والدتها أن تجلسها بحجري، لقد كانت ثقيلة، لدرجة أن خدراً أصاب قدميّ. لاحَ لي من بعيد سيارة بوليس، تقترب مننا، وماهي إلا دقائق حتى أوقفتنا وساقتنا للمخفر. رمونا جميعاً في غرفة واحدة دون طعام أو ماء، وراح بعض العراقيين يسألون السوريين عن أسماء المناطق السورية كي يدّعوا أنهم منها. لم تكن هناك أية وسيلة للتفاهم بيننا وبين البوليس التركي، إلا بعض الكلمات التركية. بعد سبع ساعات أحضروا أوراقاً تحوي صوراً لأناس لانعرفهم وطلبوا مننا أن نوقّع … وقّع الجميع إلا أنا، طلبت منهم أن يترجموا لي ماكُتب. بدأ الشرطي بالصراخ وتهديدي مشيراً إلى القبو السفلي أي أنه سينقلني إليه، تراجعت، شعرت بالخوف، ثم عاودت سؤاله عن مترجم. بعد ساعة فتح باب غرفة الحجز رجل أربعيني، نظر إلينا كأننا حشرات متطفلة وقال: بدكن حريي؟ ماكان عاجبكن بشار الأسد ماهيكي؟ خليكن تموتوا هلق. لم ينبس أحد ببنت شفه، فتقدم مني وراح يشرح لي ماكتُب. الصور كانت لتجّّار مخدرات وأصحاب سوابق، لا يملكون دليلاً ملموساً يدينهم، فوجدونا “لقطة” لنشهد عليهم!
قلت له: لن أوقع، فقال إذن ستبقين هنا لشهر أو شهرين. كنت جبانة أكثر مما توقعت فوقعت على الأوراق وأنا ألعن نفسي ألفَ مرّة وفي مخيلتي صورَ آلاف المعتقلين في سجون النظام السوري الذي أوصلنا إلى هنا. في تلك اللحظات كانَ أكبر أحلامي باب غرفة الحجز .. لا أكثر! كحال المعتقلين في سجون النظام.. تذكرت حينها حملة أصدقائي على فيسبوك التي سموها “شكرآ تركيا”.
التعليقات متوقفه