تحذير أخير لأمة تشرف على الموت – عبدالله شاهين
حكي لي خالي أنه كان تلميذاً لدى شيخ من شيوخ الخط العربي في سوريا درس على يده لسنوات، كان لدى ذلك الشيخ “دُرج أسرار” يفتحه بين الفينة والأخرى ويسترق النظر إلى مخطوط موجود فيه فتصيبه قشعريرة تدفعه إلى إغلاق الدرج، ليعود بعدها إلى عمله.
يوماً ما قام أحد التلاميذ بالتسلل من دون علم شيخ الخط ليصل إلى ذلك الدُرج ويفتحه، حين قام التلميذ بفتح الدرج وجد مخطوطاً خُط عليه حرف الألف بشكل فني أخاذ، علم الجميع فيما بعد أن هذا المخطوط يعود إلى معلم شيخ الخط، أخذه منه يوم كان هو تلميذاً عنده، فانفرد به حتى بات يتأمل المخطوط وحده فيرى فيه سراً من أسرار جمال الخط العربي، أراد شيخ الخط أن يبقى هذا السر له وألا يشارك به أحدا من العالمين.
في عام 2009 وفي الشهر الثاني من إقامتي السريرية أثناء دراستي الطب الباطني بجامعة براون في الولايات المتحدة اتجهت إلى مكتب الدكتور “ستيفن أوبل” وهو أحد أكبر المختصين حول العالم في مجال الخمج وتعفن الدم.
بعد زيارتين إلى مكتبه رافقهما بعض الإلحاح المترافق مع تعبيري عن حبي الحقيقي لهذا المجال من الدارسة وسعيي الحثيث لأن أبني لنفسي فيه مستقبلاً مهنيا ناجحاً، ارتاح الدكتور ستيفن لي فأخرج من مكتبه عدداً من مقالاته ومؤلفاته ولخص لي تجربته وعرض علي بعضاً من أبحاثه الحالية والسابقة ونبهني إلى الأخطاء التي وقع فيها وشاركني ببعض أفكاره الواعدة التي تستحق البحث.
يمكنني القول أن الدكتور ستيفن تبناني وسلمني أحد أبحاثه، بل أنه ساعدني على الصعود لما لم يصل هو له، فكان سندي لأتحصل على الزمالة الأكاديمية في هذا الاختصاص في جامعة هارفرد، بالإضافة إلى اختصاص في العناية المشددة، الاختصاص الذي كنت أعشقه وكان هو يعشقه دون أن يتمكن من الوصول إليه في جامعة براون حيث يعمل.
كان الدكتور ستيفن فخوراً بأني أطمح لأن أتبنى عمله وأكمل من حيث انتهى ذلك أنه سيتقاعد عن العمل السريري هذا العام.
ما بين المثال الأول والمثال الثاني يقع مفترق كبير بين مسار يؤسس للانحطاط وهو الأول وآخر يبني الريادة في المستقبل وهو الثاني، عند هذا المفترق بالتحديد فشلت المجتمعات العربية والإسلامية ونهضت عوالم أخرى.
أن نعيش بعقلية الدونية أمام آبائنا وأساتذتنا ومعلمينا وننظر لأنفسنا على أننا مهما بلغنا من العلم والخبرة المهنية فلن “تعلو العين عن الحاجب”، هي عبارة عن معيشة يملؤها تفكير ينعكس تأسيساً سلوكياً نفسياً يمنعنا من التقدم، أن يخاف المعلم من أن يتفوق عليه أجيره فيصير له نداً ويشاركه في رزقه كما يظن هو تفكير يقع عكس كل ما يتشدق به من يتغنى بالأخلاق والقيم الإسلامية.
شيخ الخطاطين يخاف على ريادته فلا يتردد في أن يقصر في تعليم طلابه كي يظلوا صغاراً أمامه فلا يتعدون ما وصل إليه، في الوقت الذي كان بإمكانه به أن يتخلى عن بعض الكبرياء المصطنع ليخلق له ولهم فرصة للتقدم والتجديد لو عرض عليهم المخطوط الذي يحمل سراً مجهولاً في تخطيط حرف الألف!
الفرق بين الطريقة التي ينظر فيها علماء الأحياء لأعمال لامارك وداروين وبين نظرة طلاب العلم الشرعي لأعمال ابن القيم والبخاري هي الفرق بين مستقبل أمتنا ومستقبل الأمم الأخرى، أحلم أن أرى عالماً شرعياً في يومنا يرى نفسه نداً بل وأفضل بسنوات وقرون من الطبري وابن ماجة وابن حنبل، وأحلم أن أرى شيخ الخطاطين يتفوق على معلمه بحيث يكمل من حيث انتهى شيخه، أحلم ألا يكون التفضيل بين التلامذة مبنياً على القرابة البيولوجية أو المصالح الاجتماعية بل على وحدة الأهداف والأحلام.
إذا بقينا نعيش في قفص أن السلف الصالح، المتقدمين منهم والآخرين، خير منا، فنحن أمة أموات لن تزيد حصتها في العالم على مزيد من الهوان والاستعباد والتردي والتخلف.
التعليقات متوقفه