كيف تكيّف السوريون مع الحرب؟ – ضياء صابوني
لعل البحث عن إجابة منطقية على هذا السؤال كانت ربما أهم دافع لي لأدخل إلى سوريا وأجرب الحياة فيها بضعة أشهر متواصلة، إذ كنت بحاجة لأصل إلى شيء غير الذي نشاهده ونقرؤه ونسمعه، كان الأمر بالنسبة أشبه برحلة تائه باحث عن الحقيقة متعطش للمعرفة.
هل الناس مجبرون على التعايش مع هذا النوع من الحياة التي لا تحمل في ظاهرها إلا الموت؟ أم أنهم يفعلون ذلك بكامل إرادتهم؟! وما مدى قدرة الإنسان على تحمّل تبعات الحرب وأعبائها، فوق تحمّله لأعباء الحياة؟!
أسئلة كثيرة كانت تزدحم في رأسي، وكنت أشك في قدرتي على الإجابة عليها، لأنني لا أريد أجوبة فلسفية جدلية، بل كنت أرغب في إجابات بسيطة محددة ترسم لي صورة عفوية واضحة كلوحة زيتية تقليدية لمنظر طبيعي فيه أشجار خضراء ومنزل ريفي ونهر يمر في الوسط.
في بداية إقامتي في المناطق المحررة قضيت أياماً متتالية في قرية صغيرة بريف حلب أراقب الناس، يخرجون إلى أعمالهم باكرين، يعودون قبيل المساء، يتناولون الطعام، يجلسون قليلاً مع أهلهم وأطفالهم، ثم ينامون، هكذا بكل بساطة، كأناس عاديين يعيشون حياة عادية تماماً، ولكن ماذا عن الحرب؟
حسناً؛ في بعض ساعات النهار أو الليل يحدث أن نسمع هدير الطائرات الحربية تمر مسرعة فوق رؤوسنا، نتشهّد، نغمض أعيننا، يضرب الصاروخ ضربته، تهتز الجدران حولنا، نصيح: الله أكبر، نفتح أعيننا، ننظر في وجوه بعضنا، كل شيء على ما يرام، يخرج أحدنا إلى الشارع ليطمئن عن مكان الضربة وأثرها، بينما يتابع الباقون أعمالهم وكأن شيئاً لم يكن، وهكذا تستمر الحياة!
قد يحدث هذا في اليوم مرة أو مرتين، أو عشر مرات، وقد لا يحدث إلا في كل يومين مرة، لا أحد يدري، ولا أحد يعرف ما هي الخطة الغبية التي يتبعها الطيران في قصف المدنيين، ربما يحاول النظام أن يثبت وجوده عبر القصف العشوائي بعد أن فقد السيطرة تماماً على الأرض، من خلال تعديل بسيط على نظرية ديكارت لتتناسب مع عقلية إجرامية متوحشة تقول: أنا أقصف؛ إذن أنا موجود!
قد يحدث أن يكون القصف قريباً جداً، فيضطر الناس لإيقاف أعمالهم، ويذهبون لاستطلاع الوضع، يتفقدون الشهداء، ينقذون الجرحى، يغيثون العوائل ويبحثون لها عن مأوى بديل، ثم ينتهي الأمر ويعود كل منهم لشأنه، وقد يتحدثون عن نتائج الضربة وتداعياتها في سهرة المساء.
لا يختلف الأمر في المدن الكبرى كحلب وإدلب، غير أن إيقاع حياة المدينة ونمطها يفرض نفسه، فالحياة فيها لا تتوقف حتى في أثناء القصف، وما يحدث في شارع ما لا يغير شيئاً من واقع الحياة في شارع آخر، وفي لحظة القصف لا يتجه نحو موقعه على وجه السرعة عادة إلا فرق الدفاع المدني والإعلاميون، كما يحصل في أي مدينة في العالم حين وقوع حادث ما، لأن تجمع الناس في موقع القصف سيعيق عمليات الإنقاذ، وقد يشكل خطراً على حياتهم خشية من قصف لاحق متعمد يستهدف التجمعات.
احتاج الناس في المناطق المحررة وقتاً طويلاً حتى وصلوا إلى هذه النتيجة، ولم تكن الأمور تجري على هذا المنوال في بداية الحرب، فالقصف الذي يستهدف حياً في المدينة أو قرية ما كان يؤدي مباشرة لجلاء المدنيين والسكان ونزوحهم من الحي أو القرية، وتجمعات الناس عند المخابز مثلاً كانت صيداً ثميناً للطائرات اللعينة لتنفيذ مجازر مروعة، ووجود طائرة تحلق في السماء كان سبباً لتوقف الحياة وتجمّدها ريثما تبتعد، وحركة السيارات ليلاً كانت مخاطرة كبيرة لأنها هدف سهل للطائرات الرشاشة التي تتعمد شلّ حركة الطرقات.
أما الآن؛ فلم يعد أحد مثلاً يسكن الطوابق العليا من العمارات إطلاقاً، وخفف هذا من خسائر الأرواح نسبياً، فما عاد الناس مضطرين للنزوح المفاجىء، واتبعت المخابز أسلوباً جديداً في العمل لتأمين احتياجات الناس من الخبز دون الحاجة لتجمعهم واكتظاظهم، وأصبح وجود جهاز اللاسلكي المرتبط بالمرصد العسكري للجيش الحر ضرورة في كل سيارة لرصد حركة الطائرات فوق الطرقات، وهكذا تغيرت كثير من عادات الناس وأنماط معيشتهم أو بالأحرى جرى تكييفها مع الوقت لتتناسب مع الوضع القائم.
معظم من قابلتهم في الداخل جربوا النزوح واللجوء، كثير منهم عاشوا فترات في المخيمات سواء داخل سوريا أو خارجها، أغلب العائلات فقدت فرداً على الأقل، كل الرجال والنساء والأطفال لديهم قصصهم الخاصة ورواياتهم التي لا تنسى عن أيام الخوف التي مرت في بدايات الحرب، من خشية الحصار والفقر والجوع وفقدان الأمن واستشهاد الأحبة وسفر الأقرباء إلى بلاد بعيدة إلى غير رجعة.
ورغم أن الحرب ما زالت في أوجها إلا أن الأيام الأولى حفرت في ذاكرتهم نقوشاً لا يمكن محوها، وأثر ذلك كله في طريقة تفكير الناس، في فلسفتهم عن الحياة والموت، في طبائعهم وأخلاقهم، في تقبلهم لتغيرات الحياة، في تعاملهم مع مستجدات الظروف. ليس شرطاً أن تكون كل التغييرات إيجابية، ولكنها بالتأكيد جعلتهم أكثر صلابة وقدرة على استيعاب الحرب ونتائجها، بل وعدم المبالاة إطلاقاً بالوقت الذي ستستغرقه، ما داموا يعتقدون أنهم يفعلون الصواب بالبقاء في أرضهم والدفاع عن أنفسهم وحقهم في العيش الكريم مهما كلف الثمن.
أحد أصدقائي أظهر لي صندوقاً صغيراً يضعه بالقرب من باب المنزل عادة، يحتفظ فيه بكافة الأوراق الرسمية لأفراد العائلة، هوياتهم وجوازات سفرهم إن توفرت وشهاداتهم وعقود الزواج، بالإضافة إلى مبلغ مالي بسيط، قال لي: “إن اضطررنا للنزوح أو حصل قصف لا قدر الله؛ فهذا كل ما سأحمله معي، ولا شيء آخر، فعلت هذا الأمر سابقاً قبل ثلاث سنوات حين نزحت إلى أحد مخيمات تركيا خمسة أشهر، ولم أكن أتوقع عودتي إلى منزلي لولا فضل الله، ومستعد دائماً للرحيل إن اقتضى الأمر”.
بهذه البساطة والسرعة يتم اتخاذ قرار الرحيل، يُترك المنزل وحيداً، وتترك فيه مفروشات المنزل وأدوات المطبخ وزينة الزوجة وملابس الصغار والكبار وكتب المدرسة وألعاب الأطفال، والأهم من ذلك ذكريات أفراد العائلة وصورهم وأحاديثهم وسهراتهم وحكاياتهم في كل ركن فيه.
قد يحدث أن يودع الرجل زوجته وأطفاله الصغار قبل الذهاب إلى عمله فتوصيه زوجته ببعض متطلبات البيت وحاجاته، ولكن قد يحدث ألا يعود، أو ربما قد يعود فلا يجد زوجته ولا أطفاله ولا منزله. وقد يحدث أن يذهب شابان شقيقان إلى نقطة رباط على إحدى الجبهات فيعود أحدهما حاملاً على كتفه أخاه.
ولكن ما يحدث عادة هو أن يعود الرجل إلى بيته وزوجته وأطفاله فيجالسهم ويلاعبهم ويلاطفهم فلا ينامون إلا بعد تعب من كثرة اللعب. وما يحدث عادة هو أن يعود الشابان الشقيقان بعد رباط ليلة وليلتين، ومعركة أو معركتين؛ ليحكيا لأهلهما وأصدقائهما في الحارة عن قصص المغامرات والبطولات.
وهكذا؛ فإن القدر الذي يحكم الناس ساعة الحرب هو ذاته ما يحكمهم ساعة السلم، فالحياة والموت والسعادة والحزن والغنى والفقر قضاء وقدر؛ إذا عرف الإنسان حقه وأخذ ما له، وقدم واجبه وأدى ما عليه.
وكل فعل يسعى فيه المرء لحفظ نفسه وأهله لا ينبغي أن يخرج عن كونه تسليماً بالمشيئة مع الأخذ بالسبب، ولنا في عمر بن الخطاب أسوة حين قرر العودة من سفره إلى الشام حين أصابها الطاعون، فقال له أبو عبيدة عامر بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟! فقال عمر: “لو غيرك قالها يا أبا عبيدة.. نعم؛ نفر من قدر الله إلى قدر الله”.
وكلما اقترب الإنسان من فهم الحكمة من الحياة كلما اقترب من الفطرة، وكلما اقترب من الفطرة كلما أصبح أقل تعلقاً بشكليّات الحياة المادية ومظاهرها، وأشد تمسكاً بالمبادىء والقيم، وأكثر تعطشاً للتجربة والمعرفة، وأسهل تقبلاً لحوادث الزمان مع الشعور العامر بالرضى.
وإن كان ما ذكرته قاصراً في وصف الحرب وحالات الناس فيها، فذلك لأن الحرب لا يصلح لها أن تُكتب وتُروى؛ بقدر ما ينبغي أن تُجرّب وتُعاش.
التعليقات متوقفه