“الاتجاه المعاكس” والتطبيع – عبد الرحيم خليفة
في واحدة من سخريات القدر والسياسة ومهازل التاريخ، انبرى صهيوني للدفاع عن الشعب السوري، في مواجهة “سوري” يجهد نفسه للدفاع عن مجرم وقاتل كبشار الأسد ونظامه!
حصلت هذه الكوميديا السوداء التي شاهدها الملايين في برنامج فيصل القاسم (الاتجاه المعاكس)، في الحلقة التي بثت على الهواء مساء الخامس عشر من تشرين الثاني، والتي كانت ربما احدى أسوأ حلقات برنامج كان يحظى بجماهيرية واحترام واسعين، لجهة الضيوف والغايات المرجوة منه.
وجاءت الحلقة بعد أقل من أسبوعين على عقد مركز حرمون للدراسات ندوة مهمة عن “الجولان المنسي”، شارك فيها نخبة من الباحثين لبلورة رؤية عن العامل الإسرائيلي في الأزمة السورية، ونالها نصيب وافر من النقد بسبب توقيتها، وجدوى فتح ملف كهذا.
كثيرون اليوم لم يعودوا يرون في إسرائيل عدوا جراء ما يلاقونه من نظامهم، وعندما يستمعون لكوهين، الصهيوني ضيف الاتجاه المعاكس، يتحدث من منطلق حقوق الإنسان، ويدين جرائم الأسد وعصابته، يعقدون مقارنات تميل لصالح إسرائيل في غياب رؤية جامعة خلخلتها المذابح اليومية، كما عبرت عن ذلك تعليقات السوريين عن الحلقة على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا أن وهم البعض، قبل ذلك، قادهم لزيارة إسرائيل علناً، ومحاورة الإسرائيلين عن مصالح مشتركة في الإطاحة بنظام الأسد، والانتهاء من حالة اللاحرب واللاسلم معها، ومحاولات متفرقة تفتش عن باب للنجاة من هذا الصراع، والتطبيع مع اسرائيل، بسبب الاعتقاد بأولوية الصراع مع المشروع الإيراني-الفارسي الذي يتعمق ويتفاقم باطراد، ويخترق الجسد العربي.
بالعودة إلى التاريخ قليلاً ومن باب التذكير، ليس إلا، ينبغي القول إن الحديث عن دور إسرائيل في إيصال الأسد الأب للحكم والتمسك ببقاء الابن، لم يعد اليوم سرا يحتاج إلى أدلة وبراهين، لأن الصمت الإسرائيلي على مدى سنوات من عمر الثورة أصبح كلاماً في العلن، ومواقف ورسائل متبادلة مع أطراف دولية فاعلة، روسيا مثلا، وخدمات مباشرة تصب في مصلحة الأسد ومساعدته بتجميد بعض الجبهات المحاذية لحدود اسرائيل أو القريبة منها، بضغط من الدول التي تتحكم بالقرار السوري حاليا.
كل ذلك يقودنا إلى القول إن إسرائيل هي الحاضر – الغائب على الدوام في الموضوع السوري، وتجاهله أو المراهنة على تغييره دلالة جهل سياسي، وعدمية ثقافية، تقود إلى مهالك ومخاطر، فهذه “الدولة” ليست مدينة ألعاب إلكترونية يلهو بها الأطفال، بل دولة لها استراتيجياتها وسياساتها الواضحة منذ تأسست في قلب المشرق العربي كقاعدة متقدمة للمشروع الغربي الاستعماري الذي يأخذ اليوم أشكالا مختلفة ومتعددة.
مواقف كوهين في النتيجة لا تلزم “الدولة” الإسرائيلية بشيء وتظهرها بمظهر الغيورة على القيم الإنسانية والحريات والمؤيدة لخيارات الشعوب في تقرير مصيرها، وهي التي استقبلت جرحى في مستشفياتها، وقدمت سلالاً غذائية لمحاصرين جائعين، في دور جوهره واضح جلي إلا لمن فقد البصيرة.
الذين انتبهوا مبكرا للعامل الإسرائيلي في الأزمة السورية، كعامل مؤثر وفاعل إلى حد كبير، هم فئة قليلة، ومثلهم الذين سلطوا الضوء عليه، بل إن كثير من المختصين، وليس العامة فقط، من ظنوا وفسروا الصمت الإسرائيلي بالحياد الايجابي لصالح تغيير النظام، وهؤلاء هم من صدقوا على مدى سنوات “مقاومة” النظام و”ممانعته”.
المعارضة السورية في مؤتمرها الوطني العام في القاهرة تموز/ يوليو 2012 أجمعت على أن الجولان أرض سورية محتلة وجزء لا يتجزأ من سوريا، يجب استردادها وفق القانون الدولي.
إن تبني خطاب سياسي عصابي يتنكر لقضية الجولان وأهله أو الاعتقاد بأن إسقاط نظام الأسد يتم عبر تقديم أوراق الاعتماد لإسرائيل لا يعدو أن يكون وقاحة وسذاجة، كما قال الدكتور حازم النهار في رده على منتقدي مركز حرمون الذي يرأسه والذي نظم ندوة الجولان المنسي.
الحديث اليوم عن إسرائيل ودورها كعدو هو تحليل يستند إلى الواقع والتاريخ، يحلل المشهد وينظر إليه من جوانبه المختلفة، ولم يخلق مع نظام الأسد أو البعث لينتهي معه، وهو ليس نتاج تفكير مريض مشبع بنظرية المؤامرة، ولكنه واقع لا يمكن التعامي عنه.
وفق ذلك فمن المستغرب حقاً أن لا تجد فضائية الجزيرة وفيصل القاسم ضيفاً غير كوهين، حتى لو كان موضوع الحلقة ذا صلة بإسرائيل ومواقفها، وتعرية لنظام المقاومة والممانعة الزائفة، وما ذلك إلا نوع من التطبيع النفسي والاعلامي الذي تصبح معه “الخيانة وجهة نظر”.
شعبنا الجريح لا ينتظر عونا أو شفقة من إسرائيل، كما لا يطلبها من نظامه، والمروجين لذلك أظنهم لم يستفتوا شعبنا وليسوا مفوضين للحديث باسمه.
إن قضية الجولان المحتل، فيما لو نزعناها عن إطارها القومي، وجاز لنا ذلك، قضية وطنية بامتياز، مؤجلة لحين استعادة سورية لعافيتها، والشعب هو صاحب القرار الأول والأخير فيها، وفق مصالح الأمن والسيادة والقانون الدولي، ومن غير مقبول الآن التلاعب بها واستباق إرادة السوريين وقرارهم.
التعليقات متوقفه