حاجة السوريين للوثائق الثبوتية تنعش مافيات التزوير – أحمد الصباح
الغربال – كانوا أطفالاً صغاراً عند انطلاق الثورة عام 2011، وأطفالٌ غيرهم ولدوا في المناطق المحررة في السنوات الأخيرة، فلا أولئك حصلوا على أوراق تثبت هويتهم وقد اشتد عودهم وباتوا شباباً في سن الزواج أو الالتحاق بمدرسة أو جامعة وبحاجة ماسة إلى وثائق ثبوتية تثبت شخصياتهم، ولا هؤلاء، ممن ولدوا حديثاً، وثقت ولاداتهم في سجلات رسمية.
فأصبح مئات آلاف السوريين وربما الملايين منهم بدون أية أوراق ثبوتية، لتنشر مع حاجتهم لهذه الأوراق مافيات لتزوير الوثائق الثبوتية، وهو الأمر الذي أضعف من حجية وقيمة الوثائق السورية ككل، ليكون ذلك خسارة أخرى تضاف إلى خسائر السوريين المتراكمة بالسنوات الأخيرة.
النظام يحتكر مرجعية إصدار الوثائق
لا يزال النظام السوري يصدر الوثائق الرسمية في مديريات الشؤون المدنية بشكل طبيعي، حيث أن مديريات الشؤون المدنية تعمل بانتظام في مدن مراكز المحافظات، باستثناء الرقة، وتتمتع الوثائق الصادرة عن مؤسسات الدولة السورية التي يديرها النظام بحجية قانونية واعتراق كامل، وبالمقابل فإن أي وثيقة تصدر عن أي جهة أو هيئة معارضة تعاني من عدم الاعتراف بها خارج حدود المناطق المحررة.
عضو رابطة المحامين السوريين الأحرار، اسكندر الأحمد، تحدث لـ”الغربال” عن معضلة الحصول على أوراق ثبوتية بالمناطق الخارجة عن سيطرة النظام قائلاً: “لقد تم تأسيس منظمات كرابطة المحامين السوريين الأحرار التي تصدت لهذه المشكلة، وفتحت مكاتب للتوثيق المدني في نهاية عام 2012، وبدأت بإجراء عمليات التوثيق المدني، وتم إصدار بيانات قيود مدنية وشهادات ولادة وشهادات وفاة وإخراجات قيد مدنية، الهدف منها تيسير أمور المواطنين في المناطق المحررة وجميع هذه الخدمات مجانية لم يتقاضى عنها مراكز التوثيق أي مقابل مالي ولكن هذه الوثائق غير معترف بها إلا ضمن المناطق المحررة”.
مافيات ضمن هياكل مؤسسات النظام تشجع التزوير والمعارضة تتفرج
يوضح المحامي الأحمد أنه “مع طفو المشكلة على السطح برزت فئة من ضعاف النفوس وتجار الأزمات تاجروا بحاجة الناس لأوراق ومستندات معترف بها في الخارج وفي مناطق سيطرة النظام وبأسعار خيالية تصل إلى 1500 دولار مقابل استصدار جواز السفر مثلا، معتمدين على شبكة مافيا منتشرة في مناطق سيطرة النظام ولها أذرع في المناطق المحررة”.
وأردف الأحمد أن “من أكثر التحديات التي يواجهها مجال التوثيق المدني في المناطق المحررة هو ظهور مزوري الأوراق على الساحة في المناطق المحررة بدون أي رقابة من أي مؤسسة ثورية وتحت بصر وسمع المحاكم الشرعية وفي بعض المناطق تحت حمايتها، والنتيجة فقدان الثقة بأي وثيقة رسمية حتى الحقيقي منهاـ لأن أي وثيقة باتت تحمل إمكانية تزويرها والاحتيال باستخدامها”.
وعزى الأحمد انتشار ظاهرة تزوير الأوراق والوثائق إلى حاجة الناس لوثائق معترف بها خارج سوريا وفي مناطق سيطرة النظام في الداخل، فهذه الوثائق، بحسب الأحمد، التي قد تصدر عن مؤسسات تابعة للنظام قام النظام عمداً بتعطيلها ورفع غطائه عنها ومنع الاعتراف بها، إذا صدرت عن أي مركز يقع في المناطق المحررة، والسبب في ذلك يرجع لضغط مافيات النظام وأذرعها في المناطق المحررة لتعطيل عمل هذه المؤسسات، وبالتالي تشجيع السوق السوداء حيث يحصل السكان على هذه الأوراق بأسعار مرتفعة جداً، وأدى تعامي الجهات الثورية عن التزوير إلى تفاقم هذه الظاهرة، حيث لم تتم محاسبه المزورين المعروفين بالاسم في المناطق المحررة والذين يفتتحون مكاتب علنية للعمل في التزوير.
وأشار عضو رابطة المحامين الأحرار إلى أن غياب مؤسسات المعارضة وعدم الاعتراف الدولي أدى لحدوث فراغ كبير قام المزورون بملئه بوثائق مزورة.
أسعار الوثائق الشخصية تتفاوت في أسواق التزوير
ومن جانبه قال محمد (فضل عدم ذكر اسمه الكامل لأسباب خاصة) وهو أحد العاملين في مجال تعقيب المعاملات في حديث لـ”الغربال” إنه “هناك الكثير من العاملين في تزوير وثائق وبيانات المواطنين السوريين في المناطق المحررة والحدودية وفي تركيا”.
وكشف معقب المعاملات أن “معقبي المعاملات يقومون بتزوير كل شيء من الشهادات الجامعية العليا إلى الهوية الشخصية، حيث كثر المتنافسون في هذا المجال حتى بات المواطن يستطيع الحصول على بطاقة شخصية بأقل من عشرة دولارات بينما يصل سعر بعض الشهادات الجامعية إلى آلاف الدولارات”.
وأضاف محمد أنه “ساعد الكثيرين في الحصول على أوراق ثبوتية وشهادات جامعية أحياناً إلا أن المكتب الذي يتعامل معه يتحفظ كثيراً على تزوير الشهادات الجامعية ولا يقوم بذلك إلا بتقديم ما يثبت أن طالب الحصول على الشهادة هو حقيقة تخرج من جامعته ولم يستطع الحصول على الوثائق اللازمة أو اتلفت لسبب ما، ولكن على الأغلب يتم تزوير أي وثيقة مهما كانت الجهة المصدرة وكل شيء بسعره وكل مكتب يعمل بالتزوير تجد عنده مئات الأختام لمختلف الدوائر الحكومية والوزارات”.
ابراهيم الحجاج عسكري منشق عن صفوف قوات النظام ومقيم في ريف ادلب قال لـ”الغربال”: “حصلت على جواز سفر وهوية شخصية مزورة كوني عسكري منشق ولا أملك أي اثبات لشخصيتي، ولم أجد أي وسيلة قانونية أحصل فيها على وثائقي حتى شهادتي الجامعية التي ذهبت إلى الخدمة العسكرية قبل أن أستخرجها من الجامعة، فاضطررت لتزوير هوية وجواز سفر، ولم أستطع الاستفادة من جواز السفر رغم أنني دفعت مبلغ 500 دولار أمريكي للحصول عليه ولكن اكتشف الموظفون الأتراك على المعبر أنه مزور ولم يعد له أي قيمة”.
وأضاف “أتنقل من منطقة لأخرى بهويتي الشخصية المزورة والتي لا تختلف عن هويتي الأصلية حتى برقمها الوطني كوني أدرجت عليها المعلومات حسب صورة لهويتي كانت بحوزتي”.
توسع لدور المخاتير مع غياب المؤسسات الرسمية
مع فوضى التوثيق وغياب الجهات الرسمية التي يمكن أن تمنح وثائق ثبوتية، بات عمل مختار الحي يشمل تسيير معاملات الزواج والولادة في المراحل الأولى حيث يتقدم كل من العروسين بهوياتهم الشخصية ليقوم المختار بمنحهم صك الزواج وتحويله للقاضي الشرعي أو كاتب المحكمة.
وفي حديث لـ”الغربال ” قال أبو محمد مختار أحد أحياء كفرنبل إنه “من أراد الحصول على دفتر عائلة من مناطق النظام يتوجه بصك الزواج الذي يمنحه المختار إلى القاضي الشرعي أو كاتب المحكمة (يتبع للنظام أو يتبع للمحاكم العاملة في مناطق النظام) الذي يقوم بدوره بالسفر بشكل دوري إلى مناطق النظام لتوثيق تلك الوقائع، ثم يقوم المواطن أو زوجته بالحصول على البطاقة العائلية باليد من مناطق النظام”.
يتابع أبو محمد “كذلك الحال بالنسبة لشهادات الولادة حيث يأتي الراغب بالحصول على شهادة ولادة بشهادة الولادة من المشفى الذي حدثت به الواقعة وأقوم كمختار بكتابة صك الولادة وتوجيهه إلى دائرة الأحوال المدنية في المناطق المحررة لتثبيتها”.
وختم أبو محمد حديثه أنه “تصل إلى يدنا الكثير من الوثائق المزورة ولا سيما البيانات العائلية وأحياناً تكون ممهورة بخاتم مزور عن ختم دائرتنا وأغلب الوثائق المزورة تصلنا من منطقة جرجناز ومعرة حرمة والشيخ مصطفى والإجراء الذي نقوم به هو رفع دعاوى على المزورين ومتابعة قضايا التزوير في المحاكم ولدى الجهات التنفيذية للتخفيف من حالات التزوير والوصول إلى القضاء عليها تماماً”.
دور محدود لمديريات الأحوال المدنية بالمناطق المحررة
مع بداية خروج مناطق واسعة في الشمال السوري عن سيطرة النظام، أوقف النظام عمل الدوائر الحكومية في المناطق التي خرجت عن سيطرته، واستمرت دوائر السجل المدني بالعمل بشكل جزئي لتيسير شؤون المواطنين وتصدق وثائقها في المديرية الأم، ولو أن هناك تجاوزات تحصل بسبب عدم قدرة أغلب الناس في المناطق المحررة على التوجه لمدينة إدلب خشية اعتقالهم من قبل حواجز النظام، وبعد تحرير المدينة توقف هذا الدور بشكل كامل.
مدير مؤسسة الأحوال المدنية في المناطق المحررة، أحمد المرعي، تحدث لـ”الغربال” إنه “ببداية آب 2015 عادت دائرة الأحوال المدنية للعمل برعاية جهة محلية لتقديم الخدمات للمواطنين بإجراءات روتينية أخف”، منوهاً إلى “عدم وجود أي علاقة تنسيق مع دوائر النظام ولكن يحدث تنسيق بين المواطن المستفيد ودوائر النظام عن طريق وسطاء ومعقبي معاملات لإتمام معاملته في مناطق النظام”.
وأضاف المرعي أن المناطق (كفرنبل، حيش، خان شيخون، التمانعة، أبو ظهور، سنجار، إحسم، معرة مصرين، حارم، سلقين، دركوش، الجانودية وجسر الشغور) تعمل تحت إدارة دائرة الأحوال المدنية وتنظمها ضوابط موحدة ونظام واحد.
وأردف أن المؤسسة تقدم جميع الخدمات المتعلقة بالأحوال الشخصية واقعات الزواج والولادات الجديدة والطلاق ونقل القيد وبشكل عام نقوم بكل ما كانت تقوم به دوائر السجل المدني سابقاً وتم تأجيل العمل بالبطاقة الشخصية لأسباب متعددة أهمها الاتفاق على نموذج موحد يختلف عن بطاقات التي يصدرها النظام وبسبب انتشار عمليات التزوير واستعضنا عنها حالياً بمنح اخراج قيد مصدق وعليه صورة حامله لتسهيل عملية تنقله بين المناطق.
وتابع المرعي حديثه قائلاً إن “هنالك إقبال من الناس على إدارة السجل المدني والخدمات التي تقدمها وأنه بعد الإلحاح على موضوع البطاقات العائلية قمنا بإصدار بطاقات عائلية متفوقة على البطاقات العائلية التي يصدرها النظام من حيث التصميم والطباعة والمحتوى وذلك عن طريق شمولها لمعلومات وافية تخفف العبء على الموظف والمستفيد على السواء”.
وبعد انتشار المحاكم وتعددها بات من الصعوبة الفصل بين عمل السجل المدني والمحاكم قام القائمون على مؤسسة الأحوال الشخصية بجولات على المحاكم وعرضوا عليهم التعاون ولم يجدوا قبولاً وافياً وأصدروا قراراً بإيقاف التعامل مع المحاكم، وامتنعت المؤسسة عن توثيق صكوك الزواج التي تصدرها تلك المحاكم في سجلاتها المدنية وبالمقابل أحدثت مكاتب شرعية في دوائرها لتوثيق واقعات الزواج.
وزاد المرعي أن المؤسسة تقدم خدماتها للمقيمين بشكل بديهي وتنقسم خدماتها للنازحين إلى عدة أصناف أسهلها أولئك الذين اصطحبوا أوراقهم الثبوتية، فتقوم المؤسسة بعملية نقل قيد مؤقتة من منطقة نزوحه إلى المنطقة التي نزح إليها حيث فتحت المؤسسة سجل بأسماء النازحين ومناطقهم ومنحهم أوراق ثبوتية.
أما بالنسبة لمن لا يملك بيانات يطلب منه أن يأتي بما يثبت شخصيته كإخراج قيد أو بيان عائلي من مناطق النظام عن طريق أقرباء أو وسطاء أو معقبي المعاملات.
وأما الصنف الأخير فهم من لا يستطيعون القيام بكل تلك الإجراءات وبحاجة لأوراق تثبت شخصيته لدى المنظمات الإنسانية والهيئات الإغاثية “ولهؤلاء خصيصاً أصدرنا ما يسمى بـ(بيان عائلي مؤقت) خاص بالمنظمات الإنسانية ولا يصلح لتسجيل الواقعات المدنية، وهنا أنصح النازحين بالقدوم وتسجيل أوراقهم الثبوتية في الإدارة كضمان لعدم تلف أوراقهم ولحفظها من الضياع من خلال عملية تسجيلها”.
النظام لا يعترف بالوثائق الصادرة عن المديريات بالمناطق المحررة
إبراهيم نازح من ريف حماة يقول لـ”الغربال” إنه “ذهب إلى دائرة الأحوال المدنية لتسجيل مولوده الجديد وإضافته إلى البطاقة العائلية التي استخرجها منذ سنوات من دائرة نفوس حماة”، وأضاف “تمت إضافة الاسم الجديد عليه دون إضافته إلى سجلات القيد الخاص بعائلتي كونها ليست موجودة في دائرة الأحوال المدنية، فأعطوني ورقة ممهورة بخاتمهم وقالوا لي بإمكانك أن تذهب بتلك الورقة مع البطاقة العائلية وتسجل طفلك على قيود عائلتك في حماة، فقمت بإرسال الورقة مع دفتر العائلة إلى حماة مع إحدى النساء لمراجعة السجل المدني وتسجيل الطفل، فتم تحويلها إلى ما يسمى في حماة (نفوس إدلب) ولدى مراجعتي تلك الدائرة قالوا لي أن الوثيقة مزورة ولم يعترفوا بتوثيق دائرة الأحوال المدنية في المناطق المحررة”.
التعليقات متوقفه