توثيق تجارب النضال السرّي ضرورة وطنية وتاريخية – عبد الرحيم خليفة
نشرت في الفترة الأخيرة كتابات عديدة عن (الحياة الحزبية في سورية)، وعن مألات بعض الأحزاب ومستقبلاتها، بسؤال كببر: إلى أين؟ بالطبع المقصود هنا الأحزاب التي تشكّلت خارج (القانون)، وكانت سمتها السرّية المطلقة، نتيجة حظر السياسة عن المجتمع في ظل حكم العائلة، الأب والابن.
كما نشرت عدّة شهادات من أشخاص عاشوا تجارب حزبية من داخلها، أو عايشوها عن قرب، وكانوا على اطلاع على تفاصيلها وأسرارها، وهي كلها تحاول التأريخ لهذه الأحزاب، ومواقفها في مراحل من تاريخ سورية المعاصر زاخرةً بالتحولات العميقة والخطيرة، ومهّدت لما نحن فيه من طغيان، وانهيارات عامة.
قبل الثورة صدرت بعض الكتب التوثيقية للعديد من التجارب، ولكنها لم تكشف عن كل شيء، ولم تشمل كافة القوى، وبقي ما خرج منها للعلن محكوماً بالظروف الأمنية، والهامش الممكن والمتاح حينها، بما لا يضيف ضرراً على أضرار قاصمة.
أما اليوم، وفي مناخ الثورة والحرية، فمن الضرورة أن لا تبقى الكتابة عن هذه القضايا قِطعاً متناثرة وموسمية، لا تظهر إلا ردّاً على حادثة ما، أو توضيحاً لموقف معيّن، أو تعقيباً على شهادة معينة.
والملاحظ أن أكثرية الكتابات التي تناولت تجارب الأحزاب والتنظيمات السياسية في المرحلة التي تلت استيلاء الأسد الأب على السلطة، تطرّقت إليها بصفتها تاريخاً لتلك القوى ومواقفها، ولم تتطرّق إليها باعتبارها جزءأ من تاريخ سورية المعاصر، وجزءاً من تحوّلات المنطقة وما شهدته من صراعات وتفاعلات، وسيادة أفكار ومنظومات قِيمية كان لها الأثر البالغ في حياة السوريين.
لقد طال الإجحاف والظلم هذه التجارب في ظل الثورة، و”صدرت” بحقها أحكام قاسية ومتجنّية، لم تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الظروف التي مرّت بها، والسياق التاريخي الذي تحكّم بمساراتها، ومآزقها، لذلك فإن إعادة قراءة هذه التجارب ودراستها بشكل علمي ومنصف ومحايد، بما لها وما عليها، هو بمثابة توثيق لتاريخ الحركة الوطنية السورية خارج السياق المتداول والمكتوب الذي تم ربطه وتدوينه من خلال كتبة النظام و”مؤرخيه”.
غنيٌ عن القول أن ظهور معظم الأحزاب السورية ارتبط بتحولات عالمية وإقليمية، وعكست مواقفها على مدى تاريخها تلك الحقيقة التي كانت أقرب إلى الارتباط و”التبعية”، وبعيدة عن الأجندة والمصلحة الوطنية الخالصة، وبناءً عليه يكون توثيق تلك التجارب جزءاً من تاريخ المنطقة وارتدادات حركة العالم وقِيمه في مراحل انقضت وانطوت، فهي أثرت وتأثّرت وكانت دوماً صدىً لأحداث متجاوزة للحدود، أو عابرةً لها.
بعض التجارب ظلّت طي الكتمان، وكثير من المحاولات فشلت في مهدها، والعديد من القوى بقيت أسرارها ونضالاتها طي الكتمان، ولذلك ينبغي القول إن هذا الميراث الغني والمهم لم يعد ملكاً خاصاً لأصحابه، ولكنّه “حق عام” للأجيال القادمة، باعتباره جزءاً من تاريخ الوطن السوري.
التاريخ السرّي لهذه القوى والأحزاب هو الوجه الآخر لسورية، بل هو وجهها الحقيقي والناصع، بكل ما فيه من ندوب وتشوهات وخطايا، ويمنحها البراءة من كل زيف وتشويه، يتردد كثيراً، عن سلبيتها ومهادنتها عقوداً طويلة للنظام وسكوتها عن تدجين شعبها.
كثير من السياسيين وقادة الأحزاب والمناضلين رحلوا ولم يسجلوا شهاداتهم على عصرهم وتجاربهم الحزبية المعارضة، وقد آن الأوان لتدوين وتسجيل هذا التاريخ المُغفل بشكل شفاف وعلمي ومنصف بأقلام شخوصه أو من حولهم، احتراماً للحقيقة التي هي تاريخنا وتاريخ سورية في آن.
لا يمكن هنا إغفال بعض الكتابات الأدبية في الرواية والقصة والشعر، كمراجع مهمة هي أقرب للوثائق، وبعض الأفلام والمسلسلات التسجيلية والدرامية التي رصدت شيئاً من الأحداث، أو عكستها على نحوٍ ما.
من الضرورة بمكان أيضاً إعادة قراءة كثير من الوقائع والأحداث بناءً على هذا “التاريخ السري” لإعادة تأويل الأفعال والأحداث والردود عليها، ضمن سياقاتها وفق المتغيرات والمستجدات الكثيرة التي فجّرتها الثورة.
بعض هذا التاريخ يكشف كثيراً من معطيات الحاضر، وما جرى، وإن كانت بعض الدراسات تناولته من زوايا جانبية لا شاملة، وظلّ بعضها قاصراً عن فهم كل ما فيه.
التأريخ الأمين والدقيق للأحداث مقدّمة لقراءتها بشكل موضوعي وعلمي وفق مناهج البحث وأدواته، التي هي كمبضع الجراح، مؤلمة، ولكن لا غنى عنها أبدا.
أخيراً، فان كانت هذه القوى أدت أدوارها التاريخية، واستنفدت مبررات وجودها، فأي حياة حزبية تنتظر سورية، وهل نضجت الشروط الموضوعية لبروز قوى وتشكيلات سياسية على أسس ومفاهيم مغايرة، وطنية، وحداثية، وفق سيرورة التاريخ البشري، في إطارها المحلي.
التعليقات متوقفه