إعادة الإعمار في سوريا بعيون الداعمين الأجانب – سما مسعود
يرتبط مفهوم إعادة الإعمار بالبلاد التي تعاني أو عانت من أزمات وكوارث بيئية أو حروب ونزاعات مسلحة، حيث تفقد الدولة المركزية القدرة على العطاء وتأمين الحد الأدنى من الأمان ومقومات العيش الكريم لمواطنيها.
تعمد الدول الكبرى في هذه الحالة إلى إعادة الأمن والاستقرار إلى البلد المتوتر، وذلك عبر الأمان الاقتصادي بالمرتبة الأولى، ومن ثم مقاربة وجهات النظر بين أطراف النزاع في حالة الحروب، والقضاء على أو تخفيف أسباب وآثار الكارثة في حالة الكوارث البيئية.
وسط هذه العالم المادي لا يوجد شيء بريء تماماً بلا مقابل، فغالباً ما يكون المحرك والدافع وراء عمليات إعادة الإعمار هو المكاسب المستقبلية للدول الداعمة في الدولة المنكوبة، والتي كان من المستحيل أو الصعب تحصيلها قبل الكارثة أو الأزمة.
وتظهر الدول الأوربية وأميركا إضافة للصين وروسيا وإيران واليابان كدول مهتمة بإعادة الإعمار لقاء مصالح عميقة لها تعتمد على مبدأ مدّ الجذور وبناء ما يُسمى سياسياً بالدولة العميقة.
وتعمد الدول الداعمة غالباً إلى وسيلتين تحقق عبرهما مصالحها لقاء الوجه الإنساني لها: الأولى إقصاء الدولة المركزية وإضعافها اقتصادياً باعتبارها دولة غير فعّالة؛ والثانية تقوم بفتح باب التبادل التجاري الحر، “ودفع البلدان النامية إلى الانخراط في النظام الاقتصادي الليبرالي الدولي، باعتبار أن هذا الانتماء يوفر لها تدفقات مالية واستثماراً أجنبياً مباشراً يحققان التنمية”.
الدول المساهمة بإعادة الإعمار في سوريا
تعد إيران وروسيا والصين من أكبر الدول المهتمة والتي شرعت فعلاً بالخطوات الاولى لإعادة إعمار سوريا في فترة ما بعد الحرب وذلك إلى جانب نظام الأسد، بينما اتخذت دول أخرى مواقف مزدوجة –غير معلنة- داعمة بذلك المعارضة والنظام في ذات الوقت، عبر الأمم المتحدة وأذرعها الإنسانية.
ومن بين الدول التي اتخذت موقفاً داعماً للمعارضة السورية إما على الصعيد الدولي أو على صعيد المنظمات الإنسانية غير الحكومية فيها، الولايات المتحدة الأميركية، اليابان، ألمانيا، الإمارات العربية المتحدة، الدنمارك، قطر، ماليزيا، النروج، بريطانيا، دولة الكويت، فرنسا، السويد، فنلندا، إيطاليا، كندا، تركيا والأردن.
على أن روسيا وإيران تعملان وفق نهجين مختلفين، وبالرغم من اختلاف الطريقين إلاّ أنهما يكرسان المصالح التي دأبت كل من الدولتين على كسبها في سوريا.
ففي الوقت التي اتجهت به روسيا إلى الساحل السوري شمالاً والقنيطرة المحاذية للجولان السوري المحتل جنوباً، قامت إيران بتعزيز نفوذها ونشاطها في العاصمة دمشق وطوقها، إضافة إلى حمص وإدلب (كفريا والفوعة) وريف حلب الغربي عبر حزب الله.
ولا يخلو الجنوب السوري في درعا وبعض المناطق المتاخمة لمناطق النفوذ الروسي من نشاط جيوب حزب الله.
خطة روسيا وإيران لمرحلة إعادة الإعمار
تعمل روسيا على التغلغل الإنساني في الشمال السوري أي مدن الساحل المؤيدة لنظام الأسد، كما عمدت إلى استلام زمام الأمور داخل مدينة حلب إبان التهجير القسري الذي شهدته المدينة مؤخراً على يد نظام الأسد، وحيث ينتشر الجنود الروس وصديقاتهن الشقراوات، في شوراع اللاذقية وطرطوس أقبل الشارع الموالي لبشار الأسد على افتتاح مطاعم المأكولات الروسية، وأكشاك لبيع مشروب الفودكا الروسي، كما شهدت هذه المدن إقبالاً كبيراً على تعلم اللغة الروسية في ظاهرة تعد امتداداً للتقارب الحاصل بين الأسد الأب والشيوعية نهاية القرن الماضي.
في ظاهرة قد تعد الأغرب من نوعها عالمياً من حيث التعدي على السيادة الوطنية من قبل النظام نفسه، بات التلفزيون السوري يبث بين الفينة والأخرى أغاني وطنية روسية مثل أغنية كاتيوشا، ذلك في الوقت الذي بدأ يتلازم فيه ظهور العلم السوري مع نظيره الروسي في طرقات وشوراع اللاذقية وطرطوس.
على الجهة الأخرى، بدأت إيران بحصد الاستثمارات التي طرحتها على الأرض السورية عبر جنودها ومرتزقتها، فباتت شوراع ومساجد دمشق وللمرة الأولى تعج بالحجاج الشيعة واللطميات ناهيك عن فرق الكشافة للصغار والكبار من أبناء دمشق ومن الوافدين الإيرانيين وغيرهم.
بالتزامن مع حركة التشييع الواضحة التي شهدتها العاصمة دمشق، نشطت في الآونة الأخيرة ورغم ظروف الحرب حركة العقارات داخل العاصمة وفي طوقها، حيث تعمل إيران وعبر تجار العقارات خاصتها على شراء المنازل والأراضي والعقارات وتسجيلها بأسماء أصحابها الجدد واللذين غالباً ما يكونون غير سوريين.
تقول نور وهي من سكان منطقة المزة وسط العاصمة في حديث خاص مع الغربال: “إن الدولة جرفت منازلنا لأجل توسيع دمشق؛ لكنني رأيت أشخاصاً يتكلمون الفارسية يشرفون على البناء كما أنهم قدموا مع عائلاتهم، لقد ملؤوا شوارع المزة والسيدة زينب فبتنا نحن الأقلية”، هذا وتعد مدينة داريا النموذج الأوضح، فبعيد تهجير سكانها بأيام زارها وفد شيعي وأقام بها صلاة.
الرابط بين إعادة الإعمار والاستعمار –هل تقدم البلاد الغنية أموالها مجاناً؟
تنظر أوربا إلى دور أكبر في إعادة إعمار سوريا، وذلك لتجنب الأخطاء التي ارتكبتها في العراق وليبيا، وفق مسؤولة السياسية الخارجية للاتحاد الأوربي فيدريكا موغريني التي قالت بأن الاتحاد مستعد للقيام بدوره فور بدء “الانتقال السياسي الحقيقي في سوريا”
وكانت المفوضية الأوربية قد قدمت في النصف الأول من العام الجاري وثيقة مقترحات حول “المرحلة المقبلة في سوريا –المرحلة الانتقالية” بيّنت إمكانية تقديم الاتحاد الأوربي الدعم بما يخص “إعادة صياغة دستور جديد للبلاد، وتنظيم انتخابات خاصة، من خلال المساعدة في إدارة الانتخابات وتشكيل بعثة انتخابية خاصة له” الجزيرة نت بتصرف.
تُعد البرامج التي تعتمد على منظمات المجتمع المدني البذرة التي تبدأ منها الدول في إعادة الإعمار، وتكون مهمة هذه المنظمات ملء الفراغ الحاصل في مؤسسات الدولة ومنظماتها نتيجة وقف إطلاق النار ودخول مرحلة الانتقال السياسي للسلطة.
وتسعى منظمات المجتمع المدني هذه بوجهها العام إلى إحلال سياسية السلام القائم على الأمل، إضافة إلى نشر قيم التسامح والابتعاد عن الشحن والتوتر، وتعد جميع المؤسسات السورية التي بدأت مناوئة لنظام الأسد ومساندة بقوة للمعارضة منظمات مجتمع مدني، حيث شهدت أجنداتها مؤخراً وبشكل واضح دخولها مرحلة إعادة الإعمار، عبر تعزيز قيم التسامح وانتهاجها نهجاً محايداً ربما من المعارضة حيناً، ونهجاً سلبياً حيناً آخر ساوت فيه بين الجلاد والضحية من حيث النتيجة.
في هذا الخصوص التقت الغربال بمازن وهو طالب طب كان في سنته السادسة عندما بدأت الثورة، عمل في مناطق الحصار بريف دمشق فقال: “خرجت في بداية الثورة إلى تركيا وحضرت مؤتمراً وورشة عمل لإحدى المؤسسات التي انطلقت داعمة للثورة والثوار، لقد كان الكلام حينها حماسياً، مجد الثوار وقبّح النظام ومواليه، لقد دعى الحاضرون وبحرقة للجيش الحر وللمقاتلين ضد الطاغية”.
وتابع مازن كلامه: “عملت مع هذه المؤسسة في تأسيس مشاف ميدانية بالداخل وعلاج الجرحى، وفي بداية 2014 تغيرت لهجة الخطاب وبدا وكأننا والجلاد في كفة واحدة فكلانا محاصر وكلانا يُقتل بنظر هذه المؤسسة، وكأن القاتل جهة مجهولة غير معروفة”؟
وأضاف: “خرجت إلى تركيا بعد أن وصلت لإدلب في الباصات الخضراء مهجراً تاركاً كل ما أملك، وتمكنت من تأمين عمل لي مع ذات المؤسسة لأفاجأ بأحد أصدقاء الجامعة الذي كان مؤيداً للأسد ولذا تمكن من إتمام دراسته وتخصصه في دمشق، يعمل في المؤسسة وقد تجاوزني رتبة وراتباً”
ويلخص كلام مازن مراحل تطور فكرة التدخل المادي للدول المانحة بوجوه عدة، حيث تبدأ مساندة لقضية الشعب وما إن يحصل التقارب حتى تبدأ القيم الإنسانية بالسيطرة على العمل وتشكل فيما بعد معبراً قوياً وحامياً للمصالح المستقبلية لهذه الدول في البلاد.
من جهته يرى ستيف عرقاوي، وهو سوري أميركي يعمل في المجلس السوري الأميركي، أنه من الممكن أن تكون هناك أجندات ما للدعم الدولي لكنه أكد في حديثه مع الغربال أن دعم المنظمات الإنسانية غير الحكومية ينطلق ويصب فقط في الناحية الإنسانية، وهي تخدم كل من تعرض لمظلمة سواء كانت من النظام أو الفصائل المقاتله ضده.
تعد تجربة أفغانستان والعراق مع إعادة الإعمار تجربة أليمة للشعبين، حيث انهارت الدولة وانهارت قيم الولاء للدولة لتحل مكانها الولاء للطائفة عبر تقوية طائفة على أخرى، فقد تجاوزت الدول المانحة وعلى رأسها الولايات المتحدة كل قيم التسامح التي بدأت بها ودخلت لأجلها العراق وأفغانستان، وقفزت عبرها إلى ما أسمته حينها هيلاري كلينتون بالفوضى الخلاقة أي الفوضى الجالبة للمصلحة الأميركية في المنطقة.
إن استمرار الحرب في سوريا، وهذا ما تسعى الدول الكبرى إليه في سوريا عبر تقوية النظام والمعارضة بأشكال عدّة على السواء، سيؤدي إلى انهيار سورية دولة وشعباً، ما يضطر الأمم المتحدة استناداً إلى الفصلين السابع والثامن من ميثاقها إلى التدخل قبل أن تشتعل المنطقة برمتها تحت ذريعة الإرهاب، وهو الأخطبوط المبتكر الخارج عن السيطرة، أو أنها ستعمل بشكل عاجل وغير مدروس على تقوية أحد طرفي النزاع وبالتالي إنهاء الحرب لصالح طرف قوي لن يكون بالضرورة المعارضة أو النظام بل من الجائز أن يكون مسخاً سورياً ناقصاً، أو روبوتاً إنسانياً، لكن المهم بالأمر أن الوصاية الدولية ستكون أمراً حتمياً.
المؤسسات العاملة بمجال إعادة الإعمار في سوريا
لو نظرنا إلى إعادة الإعمار بمفهومه الواسع فإن العدد الأكبر من المنظمات والمؤسسات السورية قد تندرج تحت هذا المسمى خاصة وأن توجه الداعمين صراحة نحو إعادة إعمار مؤدلج حسب رؤيتهم، صار واضحاً.
نذكر بعض المنظمات التي تعمل منذ بداية الثورة في إعادة إعمار سوريا لجهة الثورة:
منظمة اليوم التالي: تأسست في النصف الأول من 2012، وهي كما تعرف نفسها منظمة معنية بالمرحلة الانتقالية لسوريا ما بعد الأسد، أسسها خمسون ناشطاً سورياً، بدعم لوجستي وتقني من المعهد الأمريكي للسلام (USIP) والمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن الدولي (SWP).
وتعمل على انتقال ديمقراطي للسلطة في سوريا من خلال دعم 6 مجالات وهي: سيادة القانون، العدالة الانتقالية، إصلاح القطاع الأمني، تصميم النظم الانتخابية وانتخاب الجمعية التأسيسية، التصميم الدستوري والإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
سوريون من أجل الحقيقة والعدالة: وهي منظمة سورية مستقلة غير حكومية وغير ربحية، تضم في فريقها التأسيسي أكاديميين من جنسيات أخرى، كما نشرت في تعريفها عن نفسها، يتركز عملها على توثيق انتهاك حقوق الإنسان في سوريا وقضايا المناصرة في المحافل الدولية، وتعرض المنظمة في موقعها على الإنترنت شهادات لناجين من اعتقال تعسفي، وتقارير عن الحالة والوضع الإنساني في منطقة ما، معتمدةً في ذلك على فلترة الخبر عبر ثلاث مراحل.
صندوق الائتمان لإعادة إعمار سوريا: قام بإنشائه مجموعة أصدقاء سوريا، حيث تأسس في أيلول 2013، مدعوماً من 14 دولة عربية وأوربية وآسيوية معتبرين الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الممثل الشرعي للشعب السوري.
ويشرح الصندوق مهمته وهدفه الأساسي التخفيف من معاناة الشعب السوري المتضرر من النزاع المستمر وذلك من خلال جهود إعادة الإعمار وإعادة التأهيل بالشراكة مع الحكومة المؤقتة لقوى المعارضة والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني المحلية ومزوّدي الخدمات.
من جتهتها قامت حكومة الأسد أيضاً بتأسيس مجموعات لإعادة الإعمار وذلك بتمويل روسي أو إيراني علني أو سري.
فعلى الرغم من استمرار الحرب حتى في محيط دمشق نجد مؤسسات عديدة نشأت حديثاً مهمتها إعادة الترميم مرة والإعلان عن مناقصات جديدة لمشاريع أبراج وغيرها مرات عدة.
فموقع الدليل الهندسي السوري وصفحته على الفيس بوك والتي تحمل اسم دليل إعادة الإعمار في سوريا، تنقل نشاطات الغرفة الصناعية لدمشق وريفها، إضافة لنشرها أعمال البناء لبرج في أحد مناطق ريف دمشق دون أن تحدد المكان، كما وتعمل هذه المواقع على نشر أسماء المقاولين والمهندسين واختصاص كل منهم في كل محافظات ومدن سوريا التي ما تزال خاضعة لسيطرة الأسد.
مجموعة قاسيون للأعمال الإنشائية: قامت هذه المجموعة بتشيد برج سكني في أحد ضواحي العاصمة دمشق والتي تتبع إدارياً لريف دمشق، كما نشرت المجموعة فإن البرج تم تشيده بتقنية القالب المنزلق علماً أن سوريا بكاملها وليس فقط دمشق وريفها تعاني من هجرة العقول والأدمغة خاصة في مجالي الطب والهندسة فكيف تمكنت هذه الشركة من تطوير التقنية في ظل ظروف الحرب، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو من أين أتت بكل هذا الضخ المالي لإقامة بناء في منطقة تعوم أصلاً فوق نار الحرب الملتهبة.
كما يعد برتش كانسل البريطاني –المركز الثقافي البريطاني- وعبر برنامجه خطوات رقمية لدعم المبدعين السوريين برنامجاً محايداً للوصول إلى حل للأزمة السورية.
وقدر خبراء البنك الدولي خلال المنتدى الإقتصادي العالمي الذي انعقد في البحر الميت بالأردن أن كلفة إعادة إعمار سوريا تقدرب بنحو 180 مليار دولار، فيما قالت مسؤولة السياسية الخارجية في الاتحاد الاوربي فيدريكا موغريني أن إعادة إعمار سوريا قد تحتاج إلى ما يقارب 900 مليار دولار.
وبحسب النتائج التي توصل إليها البنك الدولي عبر تطبيق سيري آبل لمتابعات وتعين الأضرار في سوريا، فإن 6 مدن رئيسية قد تضررت بشكل كبير جراء الحرب وهي بالترتيب: حلب ثم حمص تليها حماة فإدلب ثم درعا فيما تأتي اللاذقية بالمرتبة الأخيرة من حيث الضرر، يعتمد البنك وفق ما صرح في موقعه الالكتروني على نقاط الأضرار هذه في عملية إعادة الإعمار.
إعادة الإعمار اللوجستي والاقتصادي لألمانيا نموذجاً (إعداد أغيد الخضر)
خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية منكسرة على جميع الأصعدة، خسرت خلالها 5،300،000 فرداً بين عسكري ومدني حسب المؤرخ الألماني روديغر أوفرمانس، يضاف إلى تلك النتائج سقوط مليوني قتيل نتيجة أعمال التهجير والترحيل ضد الأقليات الألمانية وضحايا العمالة القصرية في الاتحاد السوفيتي والسياسة النازية التعسفية وسياسات القمع العرقية والدينية، فيقدّر إجمالي الضحايا في ألمانيا بحوالي 11% من مجموع عدد السكان في تلك الفترة.
كما أن السوفييت قد هدموا في برلين وحدها منشآت صناعية ومصانع تقدر قيمتها ما بين 3.5 إلى 4 مليار مارك ألماني، وتم تدمير ربع الأراضي الألمانية بشكل كامل، وشمل هذا الدمار أراضي زراعية وبيوت ومعامل وشوارع وبنى تحتية حيوية، وانقسمت البلاد إلى ألمانيا الشرقية والتي عرفت بالجمهورية الألمانية الديمقراطية التي تتبع النظام الشيوعي، والغربية التي عرفت بجمهورية ألمانيا الاتحادية والتي كانت تتبع النظام الرأسمالي.
لكن ألمانيا عادت أقوى مما سبق قبل الحرب، حيث طبقت ما يعرف باقتصاد السوق الاجتماعي، ويجمع هذا النظام بين محاسن اقتصاد السوق الحر، مثل قدرة اقتصادية متطورة عالية الكفاءة وتوفير المنتجات، وفي نفس الوقت تلافي مساوئ المنافسة الشرسة وعدم السماح بالانفراد بتصنيع المنتجات ومنع استغلال العاملين.
المعجزة الألمانية لجمهورية ألمانيا الاتحادية التي جعلتها تستعيد عافيتها بعد الحرب العالمية الثانية ليست بمعناها الحرفي بالشيء الخارق للطبيعة، بل أتت من خلال ايجاد صيغة توافقية بين الظروف الاقتصادية والاجتماعية في ذلك الوقت، لتُمهد لبيئة مناسبة للنهوض، حيث أسس المجتمع المدني شركات تساهمية للإنتاج وإعادة البناء تعززها في ذلك المصارف والبنوك والتي باتت تُعرف اليوم بشركات مثل مرسيدس بنز وفولكسفاجن وباير للأدوية والصناعات الكيميائية، وشركات مساهمة للحديد والصلب مثل كروب وسيمنز وغيرها، حتى إنتاج الكهرباء تقوم به شركات مساهمة أهلية تمتلك نحو 19 مفاعلا نوويا لإنتاج الكهرباء.
ولكن هذا ليس إلا واجهة لمجموعة شركات تنمو مع الوقت تقف خلف هذه الواجهة، فالشركات المتوسطة تساهم بإنتاج منتوجات تحتاجها المصانع الكبرى في صناعاتها، مثل شركات الزجاج والجلود والاطارات التي تستخدمها شركات السيارات الكبيرة في التصنيع، كما تُنتج الشركات المساهمة المتوسطة منتوجات يحتاجها الأفراد على مستوى الاستهلاك الشخصي كالمعلبات ومواد التنظيف والاثاث. ويأتي هنا دور شركات متوسطة أهلية من نوع أخر تقدم خدمات التسويق والتوصيل بين الطرفين مما يخلق مزيداً من فرص العمل.
في الحقيقة، ثمة نظريات وأبحاث كثيرة تتحدث عن المعجزة الألمانية أو الآليات التي اتبعتها ألمانيا حتى تنهض من جديد وتتبوأ مكانها مرة أخرى بين أكثر بلدان العالم تقدماً وقوة، منها رسم سياسة اقتصادية مناسبة للوضع في البلاد وطرح عملة جديدة، أو أثر مشروع مارشال الأمريكي من أجل مساعدة البلدان الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرته الحرب. لكن العامل الأبرز والأهم هو الفرد الألماني الذي استطاع مواجهة التحديات والنهوض من جديد للوصول إلى أعلى مستويات الانتاج حتى لو كان على حساب زيادة ساعات العمل الأسبوعية, ليصل الاقتصاد الألماني إلى قوة تخوله البدء بترميم جراح الحرب واستكمال إعادة إعمار البلاد نتيجة تكافل الأفراد فيما بينهم. لقد استطاع الألمان بعد الحرب إيجاد طرق لتنظيم شؤونهم والعمل بشكل سريع نسبياً، حيث عملت النساء يداً بيد مع الرجال، وحتى أفراد الجيش الذي لم يعد له وجود حتى عام 1955 عملوا بخبراتهم على إعادة بناء محطات الإنتاج المدمرة، حتى صارت ألمانيا شريكًا للقوى المنتصرة بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب ثم حليفًا مهمًا لهم.
التعليقات متوقفه