تجاوز عدد اللاجئين السوريين في تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر خمسة ملايين لاجئ لأول مرة منذ بدء الحرب في سوريا، في موجات هجرة قسريّة غيَّرت شكل وواقع التوزع السكاني في المنطقة، حيث بدأ السوريون رحلة النزوح القسري من مناطقهم إلى مناطق أكثر أمناً واستقراراً داخل سوريا، بينما توجه آخرون إلى خارج الأراضي السورية هرباً من ويلات الحرب التي تشهدها بلادهم، لكن ما الذي نعرفه عن الأفراد الذين يشكّلون هذا التدفق الضخم والأثر الذي تركته الحرب والهجرة عليهم؟
انحصرت الخيارات أمام جيل الشباب في سوريا في نطاقات ضيقة، فهي إما القتال إلى جانب قوات النظام أو إلى جانب فصائل الثورة أو التنظيمات الأخرى أو السفر واللجوء والهجرة إلى بلدان الجوار، حيث يبحثون عن فرص للعمل وأماكن أكثر أمناً للعيش، وأعداد قليلة من الشباب يبقون ليتابعوا دراستهم أو ملتزمون بحياة اجتماعية لم تمكّنهم من السفر.
يبحث الشابّ السوري اليوم عن حياة أفضل، تبعد شبح الحرب عن أحلامه وطموحاته التي تقلّصت مع الواقع المرير الذي تعيشه البلاد اليوم، فلا الطالب آمن في جامعته من الاعتقال أو التوقيف أو التفجيرات ولا المهاجر يأمن زوارق الموت في البحر المتوسط، أو تجار البشر الذين يستغلون حاجتهم للخروج عبر الحدود على طرق التهريب.
لم تمنح الحرب أحداً من السوريين خياراً بل كانت دوماً تفرض واقعاً مغايراً للظروف الطبيعية للمعيشة، وكذلك ظروفاً اقتصادية استثنائية يعيشها السوريون على اختلاف طبقاتهم ووجهاتهم السياسية فيدفع السوريين في سبيل الهجرة أموالاً طائلة منهم من اضطر لبيع بيته وأملاكه في سورية بعد انهيار سعر صرف الليرة السورية نحو 10 أضعاف!
حاولنا الحديث مع عدد من الشبان السوريين الذين خرجوا مرغمين من بلداتهم ويحاولون الآن التأقلم في المناطق التي وصلوا إليها سواء في الداخل السوري، أو في دول الجوار.
سامح طالب في كلية الحقوق في دمشق، ترك دراسته خشية الاعتقال، وتحول للعمل في الزراعة، بغية تأمين لقمة العيش. يخرج سامح من بيته قاصداً مزرعته القريبة، التي عايش فيها إحدى أسوأ لحظات حياته، حيث سمع دوي قذيفتين خرجتا من مدفعية إحدى القطع العسكرية القريبة التي تتبع لجيش النظام السوري، وبعد ثوانٍ معدودة سمع أزيزاً عالياً تبعه انفجار أفقده الوعي، ولم يستيقظ إلا حين وجد نفسه ملفوفاً بالضمادات على سرير المستشفى الميداني، حيث كان قد أصيب بجروح بليغة أدت فيما بعد إلى خسارة يده اليسرى.
أخبرنا سامح ذو الستة والعشرين ربيعاً عن تلك اللحظة المريرة التي عايشها “كانت لحظة خسارتي ليدي أسوأ لحظة أعيشها، خسرت يدي التي قد تكون أثمن ما أملك”.
أمسى سامح شبه عاجزٍ عن العمل في أرضه، ولكنه رغم ذلك لم ييأس فاختار الخروج في رحلة علاجية أوصلته إلى الأراضي التركية، وتمكن من التواصل مع منظمات طبية قدمت له المساعدة، وساعدته على الخضوع لدوراتٍ مهنية ليتمكن من العمل مجدداً فيما يغنيه عن مساعدة الناس، وجد سامح اليوم نفسه في عالم جديد كلياً خارج وطنه، يحاول التأقلم معه، والبدء من جديد في حياة تنسيه مرارة الفقد.
أما وليد فلم يعد يجد لنفسه متسعاً في بلدته في ريف دمشق التي باتت تعتبر تحت سيطرة قوات النظام، حيث فرض عليها –كحال غيرها من بلدات ريف دمشق- تهدئة تنتهي بتسوية أوضاع جميع المقيمين فيها، ممن اختاروا السير في نهج يعارض النظام الحاكم في البلاد.
فاختار وليد الخروج مع أصدقائه إلى الشمال السوري، حيث استقر في شقة استأجرها مع مجموعة من الشباب، وبعد أسابيع من الإقامة في إدلب، وجد أن طموحاته تدفعه للخروج منها قاصداً تركيا.
لم يستسلم وليد لليأس بعدما فشل في الدخول إلى تركيا مرات عديدة، ولم يتوقف عن محاولة الدخول حتى نجح واستطاع الدخول إليها، وبدأ العمل بعد بحث طويل في أحد المطاعم في الجنوب التركي.
وليد الآن قد يكون مرتاحاً من الناحية الأمنية، إلا أنه لن يستطيع نسيان ما مرّ به من لحظات عصيبة في طريق رحلته هرباً من الموت والدمار.
وعن خالد فهو طفل لاجئ في الداخل السوري، خرج مع عائلته من بلدته في ريف دمشق هرباً من الحمم التي صبتها الطائرات وقاذفات المدفعية على بلدهم، باحثين عن ركن آمن يلجؤون إليه طلباً للأمان.
إلا أن خالد بقي يحمل في ذاكرته العديد من المشاهد واللحظات المؤلمة، التي عاشها قبيل خروجه، وكان أسوأها اللحظة التي انتهك فيها أحد البراميل المتفجرة حرمة بيتهم، وأحال عماره إلى ركام، وأصبح صوت هدير الطائرة وصوت البرميل وكذلك صراخ إخوته ووالدته رفيقاً موجعاً لا يفارق مسمعه.
فكل صوت يسمعه أصبح يظنه صوت قصّف أو صوت طائرة مقبلة إليهم، فسرعان ما يهرع ويختبئ في أحضان أمه التي أتعبتها جروح الليلة العصيبة التي عاشوها تحت الأنقاض، وهي لا تملك إلا أن تقنع ابنها أنه بات آمناً معها في مركز الإيواء الذي لجأوا إليه.
أصبحت آثار الحرب تظهر جليّة على فئة واسعة من الأطفال، حيث لاحظ أخصائيون أعراضاً نفسية وجسدية ملموسة على العديد من الأطفال الذين يعيشون في مناطق تعرضت للقصف أو الاستهداف المباشر، وهذا ما أخبرنا به مدير أحد مراكز الدعم النفسي في سوريا “ظافر بيبرس”، الأخصائي في علم الاجتماع، الذي حدثنا عن أسباب تدهور الأوضاع النفسية للأطفال في الواقع الذي تعيشه سوريا هذه الأيام: “إن الحرب وكذلك سوء الأوضاع المعيشية للسكان وغياب التوعية وانشغال أغلب الأهل بواقع الاقتتال ومشاهد السلاح، كل هذا تسبب بتدمير المؤسستين المعنيتين في تعليم الطفل وتربيته، وهما الأسرة والمدرسة”.
وأضاف كذلك بأن اللعب والدراسة من حق كل طفل وفق القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، ولكنّ الحرب في سورية، وظروف التهجير القسري لم تتح للأطفال وقتاً أو مكاناً لممارستهما.
وإن غياب حقوق الأطفال في ظل الحرب، حسب الأخصائي الاجتماعي يكاد يكون أخطر الظواهر التي تشهدها بلادنا، فالكثير من الأطفال ممن فقدوا معيلهم يلجؤون إلى الأزقة والطرقات للتسول وجني المال بطرق غير أخلاقية، وقد سجلت العديد من الحالات لأطفال سلكوا طرقاً أكثر خطورة كالجريمة.
ويؤكد الناشط في مجال الدعم النفسي “ظافر” أن انتشار ظاهرة تجنيد الأطفال في معسكرات التدريب على السلاح وزجهم في الصراع الدائر في البلاد، وذلك بسبب الثأر لأحد أفراد العائلة أو قد يكون نصرة للأفكار التي فرضها عليهم الجو المحيط بهم، وقد يكون بغية جني المال لتأمين متطلباتهم الحياتية.
وأكمل أن برامج “الدعم النفسي” للأطفال وكذلك الدورات والأنشطة الترفيهية والتعليمية، تلعب دوراً كبيراً في علاج الآثار السلبية التي خلفتها الحرب على الأطفال، وكذلك تقي من التدهور النفسي للطفل في حال تعرضه لاضطرابات نفسية بسبب الأوضاع المأساوية التي تعيشها البلاد.
يعتمد النشطاء في مراكز الدعم النفسي، في الداخل السوري وفي دول الجوار على نشاطات عديدة منها: الأنشطة الترفيهية، وكذلك المسابقات، وعروض الأفلام الهادفة، والرسم وفقرة مميزة هي قصتي والترحيل من بيتنا، وذلك بهدف معالجة العبء النفسي والصدمات التي يشعر بها هؤلاء الأطفال.
لا يتم التخلص من آثار الصدمة بشكل كامل، بل يمكن التخفيف من وطأتها عن طريق زيادة الاهتمام، وإقامة التواصل والحوار البناء مع الأطفال والمراهقين ليستعيدوا ثقتهم بمحيطهم، وإعطائهم تفسيرًا منطقيًا للواقع اللذين وُجدوا فيه، وإعطائه حجمه الحقيقي. وهذا ما يمكنه أن يساعد على التخفيف من الصدمة والخروج منها بأقل ضرر نفسي ممكن. وفي سياق الحديث عن الأثر النفسي الواقع على جيل الحرب، يمكن استذكار تجربة الأطفال الهولنديين الذين عايشوا قسوة الحرب العالمية الثانية، تقول السيدة ماود بيرسمنس وهي مختصة نفسية بمركز لمعالجة الصدمات النفسية لما بعد الحرب، ” تسببت الخبرات البشعة لهم بالعديد من المشاكل النفسية والاضطرابات في حياتهم الزوجية، فالبعض منهم لم يستطيعوا الاستمرار بعلاقاتهم مع شركائهم, فيما عانى آخرون من خوف شديد من التقدم في العمر، وذلك لأنهم كان يؤمنون بأن ماتبقى لهم هو صحتهم فحسب لذلك يجب الحفاظ عليها بشكل مبالغ به أحيانا”. وتتابع بيرسمنس، “سجل المركز حالات انتحار لبعض الأشخاص ممن تلقوا العلاج في المركز، واللافت بالأمر بأن هؤلاء المرضى كانوا مراهقين أثناء الحرب وقد إتخذوا قرار الانتحار وأقدموا عليه بعد ما يقارب الأربعين أو الخمسين عاماً”.
وتضيف السيدة ماود أن الحرب تركت أثرأ عميقا على كافة الأجيال التي عايشتها من الهولنديين لذلك يتسم المجتمع الهولندي أحيانا بالبساطة، كالمطبخ الهولندي وأيضا كعادات وتقاليد قد تقترب من حد البخل، ويعود ذلك الى جيل الأطفال والمراهقين الذين عايشوا الحرب العالمية الثانية بكل مآسيها ومعاناتها، حيث كان الهولنديين يعانون من شح المواد الغذائية وقلة الموارد، ورغم تغيّر الوضع في هولندا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، حافظ الهولنديون على التقشف وعدم التبذير في المأكل والمشرب”.
التعليقات متوقفه