ضياع الآثار السورية بين النهب والتخريب …ومساع لاستردادها – سونيا العلي
تعتبر سوريا متحفاً أثرياً مفتوحاً نظراً لما تحويه من آثار قديمة ومساجد وكنائس وقصور تاريخية تعود إلى حقبات اليونان والبيزنطيين والمماليك، وقد استطاعت هذه الأوابد أن تعبر عصور التاريخ دون أن تفقد ألقها .
لكن هذا الإرث الحضاري الضخم يتعرض منذ بداية الصراع في منتصف آذار/مارس ٢٠١١ للتخريب والتدمير، حيث تحولت الكثير من المواقع الأثرية إلى مقرات عسكرية وساحات حرب، كما تعرضت الكثير من الأوابد في حلب وإدلب وقلعة الحصن والرقة وتدمر لأضرار جسيمة .
خبير الآثار عبد الإله الحسين موظف سابق في مديرية الآثار والمتاحف يتحدث للغربال عن الانتهاكات التي تتعرض لها الآثار السورية قائلاً :“ تمتلك سوريا من الآثار تراثاً غنياً يفصح عن أهميتها التاريخية، لكن الاشتباكات في المناطق الأثرية أدت إلى دمار أغلب المواقع، ففي مدينة حلب التي عصفت بها معارك عنيفة أدت لدمار الجامع الأموي الكبير، إضافة إلى تعرض السوق المسقوف الذي يعتبر الأكبر في العالم لأضرار جسيمة، أما في تدمر التي تشتهر بأعمدتها الرومانية فقد شقت قوات النظام طريقاً لتسهيل سير الدبابات، إضافة لكونها شهدت اشتباكات أدت لإلحاق الضرر بالعديد من المواقع والمقابر والأعمدة واندثار أجزاء واسعة منها .”
ويبين الحسين بأن النظام قام أيضاً بقصف مواقع كثيرة بشكل مباشر مثل قلعة الكرك الشهيرة في تدمر التي تعتبر من أكثر القلاع أهمية في العالم، وكذلك متحف معرة النعمان في إدلب والمدن المنسية مثل شنشراح وغيرها، كما تعاني الكثير من المواقع من زحف العمران الحديث عليها، وقيام السكان بتكسير الحجارة الأثرية لاستخدامها في أعمال البناء كما في موقع سرجيلا بريف إدلب .
عمليات التنقيب والنهب
يؤكد الحسين خلال حديثه بأن جماعات التنقيب نشطت في ظل الحرب السورية وتزايدت بشكل واضح مستغلة حالة الفوضى والفلتان الأمني الحاصل، حيث يضيف موضحاً :” تتم هذه العمليات إما عبر مواطنين بسطاء بهدف الوصول إلى الغنى السريع وتحسين أوضاعهم المعيشية والاقتصادية أو من خلال عصابات تمتهن هذا العمل عبر شبكة واسعة تعمل في الداخل السوري باستخدام خرائط وأدوات تمكنهم من تحديد مواقع الآثار بدقة واستخدام آليات ثقيلة للحفر مسببة تخريباً كبيراً .”
أبو عامر من مدينة معرة النعمان يعمل في التنقيب عبر جهاز خاص اشتراه لهذا الغرض يتحدث عن عمله قائلاً :” نتيجة الفقر وغلاء المعيشة وندرة الأعمال بدأت أعمل في البحث عن القطع الأثرية منذ عام ٢٠١٣ حيث أقصد المقابر والمغاور الرومانية القديمة، وأمرر الجهاز في الموقع وفي حال وجود أحد المعادن يصدر رنيناً فأقوم بالحفر في المكان .”
وعن اللقى التي يجدها أبو عامر خلال عمله مضى قائلاً :” أحياناً أعمل لفترة ليست قصيرة من الزمن دون أن أجد شيئاً يذكر، وحين يحالفني الحظ أعثر على بعض القطع النقدية القديمة ونادراً ما أعثر على قطع ثمينة ذهبية أو تماثيل أو فسيفساء، حيث أبيع ما أجد لتجار الآثار المنتشرين في المنطقة .”
وقد أفرزت تجارة الآثار خلال السنوات الأخيرة شبكات منظمة يبدأ عملها من التنقيب واستخراج القطع ثم نقلها وتقييمها وعرضها على المشترين .
الشاب عارف يعمل وسيطاً ومسوقاً للآثار المهربة وعن ذلك يقول :” أعمل مع مجموعة من الشبان على تهريب القطع التي نحصل عليها من تجار الآثار المحليين، ويختلف سعر القطعة بحسب أهميتها، ثم نقوم بإخراجها عبر الحدود إلى تركيا أو لبنان أو الأردن حسب المنطقة الأقرب وسهولة النقل بالتعامل مع مهربين ندفع لهم مبالغ مالية لقاء مساعدتنا في إدخال القطع ثم نتواصل مع زبائن مهتمين بالآثار .”
ويلفت عارف إلى أن التسويق أحياناً يتم بشكل الكتروني من خلال إرسال صور عن القطع الأثرية للزبائن وفي حال أعجبتهم يرسلون أشخاصاً لفحصها وتتم عملية البيع .
جهود ومساع لحماية الآثار السورية
مايجري للمواقع الأثرية في سوريا دفع متطوعين لتأسيس مراكز الآثار في محاولة للحفاظ عليها وتوثيق المتضرر منها وتعريف الأهالي بالآثار باعتبارها هوية بلدهم، ففي محافظة إدلب التي تعوم على بحر من الآثار كما وصفها المؤرخون قامت مجموعة من الأكاديميين والمتخصصين بالآثار بتأسيس مركز آثار إدلب عام ٢٠١٢ بهدف المحافظة على الآثار من الضياع .
مدير المركز أيمن النابو يتحدث للغربال قائلاً :” تحتوي محافظة إدلب على ٧٦٠ موقعاً أثرياً وتمتد من القرن الثاني الميلادي حتى الحقبتين الرومانية والبيزنطية، لذلك نعمل على التواصل مع الجهات المعنية كمجلس المحافظة والمجالس المحلية وقيادة الشرطة الحرة لوضع خطط متعلقة بحماية الآثار، ونص قوانين وقواعد ناظمة لحفظها من عبث العابثين .”مبيناً قيام المركز بإجراء دورات تدريبية مستمرة لتأهيل أعضاء جدد لضمهم إلى مركز الآثار بعد تعليمهم طرق الحماية بشكل علمي أيام الصراع والأزمات وكيفية إعداد التقارير والتعامل مع اللغة الأثرية وكيفية التوثيق وغيرها .
كما يلفت النابو إلى بعض الأعمال التي قام بها المركز في سبيل حماية الآثار وحفظها؛ كحفظ اللوحات في متحف معرة النعمان الذي يعتبر ثاني أكبر متحف فسيفساء في الشرق الأوسط، كما قام المركز بجمع وحفظ ١٧٠٠ قطعة أثرية لكل منها هوية تعريفية بوضعها في أماكن أمنة إضافة إلى قيامه بترميم بعض المواقع حفاظاً عليها من الانهيار كما حدث في مملكة إيبلا الأثرية .
استعادة الآثار المهربة واستردادها
وعن إمكانية استرداد الآثار المهربة يردف النابو قائلاً :” الإنسانية تخسر آلاف السنين من إرثها الحضاري لذلك تحتاج حماية هذه المواقع إلى جهود محلية ودولية، وعلى الجميع تحمل المسؤولية لأن تلك القطع الأثرية تمس الهوية التاريخية للإنسانية بأسرها، ويوجد تجار أزمات وحروب لا يعني لهم هذا التراث أي شيء، لذلك يجب تشكيل لجنة من خبراء في القانون الدولي والعلماء مهمتها إعادة الآثار السورية المسروقة وتعميم صور الآثار والممتلكات التراثية والثقافية التي تم تهريبها .”
ويبين النابو بأن ذلك يتطلب العمل وفق مواد القانون الدولي ولاسيما أن اتفاقية لاهاي عام ١٩٥٤ والبروتوكول الملحق بها نص على ضرورة حماية الممتلكات التراثية من التهريب والتخريب و عدم العبث بها ولاسيما خلال النزاعات المسلحة، لذلك يعمل فريق مركز آثار إدلب على توثيق القطع التي يتم التأكد من تهريبها والمكان الذي استخرجت منه بشكل دقيق، ونشر الوعي بأهمية التراث الثقافي السوري بين الفئات الاجتماعية ليساهموا بالحفاظ عليه .
من جهته يرى عبد الإله الحسين أن:” الهاجس الأكبر هو إمكانية استعادة تلك الآثار، ولكن هذا لا يعني أن الأمر سهلاً لأنه يخضع لقوانين دولية معقدة، كما أن من الصعب استعادة كل الآثار نظراً لوجود قطع أثرية لن تظهر إلى العلن وستبقى مخبأة كممتلكات خاصة من قبل بعض الأشخاص المهتمين بالآثار .
ويضيف الحسين :”أمام هذه الحال التي آلت إليها الآثار السورية فإن الحاجة ماسة لوجود مساعدات وطاقات كبيرة للمساهمة في استرداد الآثار، بحيث يكون العمل جماعياً من كل الهيئات المعنية والأفراد، مع ضرورة الإعلان عن فقدان أو مصادرة أية قطعة مسروقة بغية الحد من إمكانية تزوير منشأ هذه القطع ومنع تداولها في أسواق ومزادات الآثار العالمية .
على أرض سوريا قامت أقدم الحضارات وأعرقها ففي كل بقعة منها تاريخ يعبق فيه التراث وجذور ضاربة في أعماق التاريخ، لكن ما يحدث للآثار خلال الحرب كارثة وخسارة للإنسانية لاتقدر بثمن، فمناطق أثرية دمرت بشكل كامل، والتي نجت من القصف والتدمير تطالها يد السرقة والنهب ليتحول الإرث الحضاري السوري إلى سلعة برسم البيع في العديد من العواصم والمدن، لذلك يجب أن تتضافر الجهود لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والحفاظ على الهوية أمام كل هذه المخاطر .
التعليقات متوقفه