الدهر والامة – جبران خليل جبران
اعتدنا أن يكون جبران عازفاً على شبكة الروح، ولكن أحد أصدقاء الغربال جاءنا بهذا النص لجبران من كتابه “دمعة وابتسامة” وهو يراه عزفاً على شبكة الغربال أيضاً، فلنستمع إلى جبران وهو يعزف أنين أرواحنا…
الدهر والأمة
على سفح لبنان بقرب جدول ينسلّ بين الصخور كأسلاك فضية؛ جلست راعية يحيط بها قطيع غنم مهزول، يرتعي الأعشاب اليابسة بين الأشواك الغضّة, صبية تنظر نحو الشفق البعيد كأنها تقرأ مآتي الآتي على صفحات الجو، وقد نمّق الدمع عينيها مثلما ينمق الندى أزهار النرجس. وفتح الأسى شفتيها كأنه يريد سلب قلبها تنهداً.
ولما جاء المساء وأخذت تلك الروابي تلتف برداء الظل وقف أمام الصبية فجأة شيخ يتدلى شعره الأبيض على صدره وكتفيه حاملاً بيمينه منجلاً مسنوناً وقال بصوت يحاكي هدير الأمواج: سلام على سوريا!
فوقفت الفتاة مذعورة وأجابته بصوت يقطعه الوجل ويصله الحزن قائلة: ماذا تبتغي الآن مني أيها الدهر؟
ثم أومأت نحو أغنامها وزادت: هذه بقايا قطيع كان يملأ الأودية. هذه فضلة مطامعك فهل جئت لتستزيد منها؟ هذه هي المسارح التي أجدبها دوس قدميك وقد كانت منبت الخصب والرزق. كانت نعاجي ترتعي رؤوس الأزهار وتدر لبناً ذكياً، فها هي الآن خمص البطون، تقضم الأشواك وأصول الأشجار مخافة الفناء.
اتّق الله يا دهر وانصرف عني فقد كرَّهتني الحياةَ ذكرى مظالمك وحبّبت إلي الموتَ قساوةُ منجلك. اتركني ووحدتي أرشف الدمع شراباً وأتنشق الحزن نسيماً واذهب يا دهر إلى الغرب حيث القوم في عرس الحياة وعيدها، ودعني أنتحب في مآتم أنت عاقدها.
فنظر الشيخ إليها نظرة الأب وقد أخفى منجله طي أثوابه وقال: ما أخذت منك يا “سوريا” إلا بعض عطاياي، وما كنت ناهباً قطّ بل مستعيراً أردّ, ووفياً ارجع. واعلمي أن لأخواتك الأمم نصيباً باستخدام مجدٍ كان عبدك, وحقاً بلبس رداءٍ كان لك.
أنا والعدل أقنومان لذات واحدة, فلا يجمل بي سوى إعطاء أخواتك ما أعطيك, ولست قادراً على تسويتكن في محبتي, لأن المحبة لا تنقسم إلا على السواء.
لك يا “سوريا” أسوة بجاراتك “مصر” و “فارس” و “اليونان” إذ لكل منهن قطيع يشابه قطيعك ومرعى نظير مرعاك.
إن ما تدعينه انحطاطا يا “سوريا” أدعوه نوماً واجباً يعقبه النشاط والعمل, فالزهرة لا تعود إلى الحياة إلا بالموت, والمحبة لا تصير عظيمة إلا بعد الفراق.
واقترب الشيخ من الفتاة ومدّ يده قائلاً: هزّي يدي يا ابنة الأنبياء.
فأخذت يده وهي تنظر إليه من وراء الدمع وقالت: الوداع أيها الدهر الوداع.
فأجابها: إلى اللقاء يا “سوريا” إلى اللقاء.
حينئذ اختفى الشيخ كما يختفي البرق, فنادت الصبية أغنامها ومضت مردّدة: هل من لقاء يا ترى هل من لقاء…؟
التعليقات متوقفه