أثناء الأخبار العاجلة – مصطفى تاج الدين الموسى
أثناء الأخبار العاجلة
مصطفى تاج الدين الموسى
بكل تلك الألوان الفاقعة على وجهها, وبنبرة صوتها المزعجة حتى للغربان.. هذه المذيعة اقتحمت على حين غرّة شاشة التلفاز في منتصف برنامج ٍعلمي, لتتلو وببطءٍ بارد خبرها العاجل:
– بحسب مراسلنا.. بلغ عدد القتلى في الاشتباكات التي تدور الآن شمال المدينة, سبعة ًوستين رجلاً..
وقبل أن تختفي تلك المذيعة عن الشاشة إثر نهاية خبرها العاجل, رمقت بغيظ هذه المرأة ذات الفستان الأزرق, والجالسة على أريكتها أمام التلفاز.. لكن وجهها مستديرٌ إلى يمينها, مشغولة ٌ بتأمُّل شيءٍ ما.. وثمَّة ابتسامةٌ ناعمة وحلوة على وجهها.. غير مهتمةٍ لأمر هذا الخبر العاجل.
ودون أن تكلِّف نفسها عناء الالتفات قليلاً, وكأن شكل تلك المذيعة لا يعنيها أبداً.
على غيظٍ منها غابت المذيعة عن شاشة التلفاز, لكنها وبعد بضع دقائق رجعت مجدداً إلى الشاشة. ولثوانٍ تأمَّلت هذه المرأة الجالسة أمامها, وحتى تثير انتباهها.. قرأت خبرها الجديد بصوتٍ عالٍ:
– أفادنا مراسلنا الآن.. أن عدد القتلى في الاشتباكات الدامية التي تعصف بشمال المدينة, بلغ أربعةً وثمانين رجلاً.
وقبل أن تختفي ثانيةً, كادت أن تنفجر من شدَّة غضبها, فالمرأة ظلت مبتسمةً بهدوء, تراقب بحنان ذلك الشيء الجميل عن يمينها -كما خمّنت المذيعة- غير مكترثة لخبرها أو صوتها أو حتى شكلها.
هناك.. في كواليس الاستديو.. تمتمت المذيعة بحنقٍ في سرِّها:
– عليها اللعنة, لماذا لا تنظر إليّ تلك الحمقاء, أتظن أنَّها أجمل مني؟!.. ولماذا تبتسم هكذا ببلاهة؟.. أي حلمٍ وردي يجول في رأسها الآن والمعارك مشتعلة؟!.. اللعنة عليها وعلى فستانها الأزرق..
قطع عليها سلسة لعناتها مُعِدُّ نشرة الأخبار وهو يناولها قصاصة ورقية.
على عجل نظرت في مرآتها الصغيرة, لتضيف قليلاً من المكياج على وجهها المزدحم بالألوان ثم أسرعت إلى الكرسي خلف الطاولة أمام عدسة آلة التصوير.
مرّةً ثالثة.. المذيعة اقتحمت مجدداً شاشة التلفاز, وحتى تثير انتباه هذه المرأة.. قرأت خبرها بصراخٍ مزعج للغاية:
– مراسلنا من شمال المدينة, أبلغنا للتو أنّ عدد القتلى في الاشتباكات الطاحنة والمشتعلة هناك منذ ساعات.. قد بلغ مئة رجلٍ..
عندما انتهت من صراخها لخبرها كانت تلهث وصدى صوتها يتردَّد برتابة في غرفة هذه المرأة, والتي لم تعرها أدنى اهتمام.
عندئذٍ.. فقدت المذيعة في ثانية كل عقلها, وبجنون.. قفزت عن الشاشة وأسرعت إلى المرأة.. وثمّة غضبٌ عارمٌ ينهمر من ملامحها كمطرٍ غزير.. وهي تنوي في سرِّها أن تصفعها بلؤمٍ دون أي رحمةٍ أو شفقة.
اقتربت منها وهي ترفع كفها للأعلى, وقبل أن تصفعها.. لمحت في رأس المرأة ثقباً صغيراً, وأسفله خيط نحيلٌ من الدم المتخثّر.
شهقت بذهول ويدها ترتخي لتسقط بخجل, ثم انتبهت إلى أنّ المرأة كان رأسها قد مال إلى تلك الجهة منذ ساعات, نحو ذلك جدار.. الذي عليه صورةٌ معلقة, عتيقة.. بالأبيض والأسود, لعريسين شابين بثياب الزفاف.
تنهدت.. ثمّة شيءٌ انكسر في روحها إلى ألف آهة.. استدارت المذيعة, فشاهدت النافذة القريبة من أريكة المرأة وقد تحطم زجاجها بسبب رصاصةٍ طائشة.
ثمّة دمعة تسللت من عينها بوحشة, وبمرارة لوّثت كل قلبها, انحنت إلى المرأة التي تعيش وحيدةً في هذا البيت, لتقبّلها في جبينها البارد.
تناهى لأذنها صوت إطلاق نار متقطع عن قرب, لملمت أشلاء روحها وودعت الجثّة بعينيها الحائرتين, ثم رجعت وهي تجر بتعبٍ رجليها إلى شاشة التلفاز.. حيث دخلتها بوهن لتجلس خلف الطاولة وكأنّها عجوزٌ.
ثم -وهي تعاند بكاءً حاصر روحها من كل الجهات- تمتمت المذيعة بصوتٍ مخنوق, وبنبرةٍ دافئة.. خبرها العاجل الجديد:
– الحصيلة النهائية كما علمنا من شهود عيان, لعدد القتلى في شمال المدينة, هو.. مئة رجلٌ وامرأة زرقاء..
عندئذٍ.. تلك المرأة, استدارت إلى التلفاز لتبتسم للمذيعة بحزن صامت, ثم.. وببطءٍ.. ثمّة دمعة شاحبة سالت بوحشة على خدِّ جثّتها الباردة.
التعليقات متوقفه