يوسف العظمة الشهيد الذي قاد السوريين في ملحمة صمودهم الأولى – مريم منصور
بعد إعلان استقلال سوريا عن السلطة العثمانية بدأ الملك فيصل، الحاكم الأول لسوريا، عملية بناء الجيش بمساندة رئيس الوزراء حينها، الجنرال علي رضا الركابي، حيث شكل العسكريون المنضمون سابقاً للجيش العثماني نواة الجيش السوري الوليد بتعداد بلغ حوالي 9000 منهم 700 ضابط، 600 منهم خريجي الكليات الحربية في اسطنبول وألمانيا، و100 منهم من ضباط الصف.
هذا الجيش لم يكن كافياً لحماية مدن سوريا الرئيسية لذلك أصدر الملك فيصل قانون التجنيد الاجباري إضافة إلى فتحه باب التطوع بالجيش الوليد، حيث أضافت مكاتب التجنيد التي بلغ عددها 17 في انحاء سوريا 7000 عسكريا آخرين الى الجيش حتى عام 1920، منهم حامية دمشق التي انفردت بعدد من الخيالة بلغ 1726.
قام الجيش بنجاح بتنفيذ مناورتي تدريب باستخدام الذخيرة الحية، وخرج دفعتين من المتدربين عامي 1919 و1920، الدعم اللوجستي العسكري للجيش السوري وقتها تكون من 868 من الإداريين والمختصين منهم 338 امرأة، بالإضافة الى ملاك متضمن 94 عربة نقل، و114 من حيوانات النقل.
عتاد الجيش كان التحدي الذي واجه الحكومة الوليدة اذ لم تمتلك ما يزيد عن 15000 بندقية ومسدس حربي، وامتلك الجيش 200 رشاش مع 10000 طلقة، و54 مدفع مع 50 قذيفة لكل منها، وهي تركة الجيش العثماني التي تركت في سوريا.
تم تأسيس وزارة الحربية في وقت مبكر من عام 1920 تحت قيادة الجنرال يوسف العظمة، الذي أسس نواة الهندسة وقام بإصلاح وبناء التحصينات في أرجاء سوريا، وإصلاح خطوط الامدادات وخاصة الخط الحديدي، وأسس ورشات إصلاح العربات والمعدات، ومد شبكة برق على طول الخط الحديدي.
وزير الحربية السوري الأول الجنرال يوسف العظمة من مواليد 1884 بحي الشاغور بدمشق، تولى الوزارة بعمر السادسة والثلاثين عام 1920، تلقى العلوم العسكرية في اسطنبول وشارك في الحرب العالمية الأولى وكان موضع ثقة وتقدير قائد الجبهات المارشال ماكترون قائد القوى الألمانية في حملة الدردنيل، وعمل فيما بعد مساعدا لأنور باشا وزير الحربية التركي، أجاد إضافة إلى العربية اللغات التركية والألمانية والفرنسية والإنكليزية، وأحاط بثقافات ومعارف عصره.
الجنرال يوسف العظمة تزوج من سيدة تركية، أنجب ابنة واحدة سميت ليلى على اسم جدتها لوالدها ليلى الشربجي، وعاشت حياتها وتزوجت في تركيا.
قوات الجيش السوري التي دافعت عن ميسلون
تقديرات المؤرخين تختلف فيما بينها على أعداد المدافعين عن دمشق ضد حملة الجنرال غورو في معركة ميسلون، لكن حسب ما تشير إليه سجلات الجنرال الفرنسي جوابيه إلى مجموع القوات التي واجهها في ميسلون تحت قيادة الجنرال يوسف العظمة بلغت 1800 جندي نظامي، و500 من المقاتلين غير نظاميين من البدو والمتطوعين الفدائيين مع 3 بطاريات مدافع، ومجموعة من الخيالة كانت مهمتهم حماية وادي القرن (وادي مقرن) المؤدي الى دمشق.
كما كان هناك 1800 آخرين يحرسون سكة الحديد المؤدية الى دمشق مدعومين بالمدفعية، ما لا يظهر بدقة من سجلات جوابيه هو أن قوات يوسف العظمة كانت منظمة كجيش حديث مع العتاد والامدادات والمستشفى الميداني، وهذا يعارض وبشكل كامل قناعة سائدة تفيد بأن السوريين لم يكونوا سوى شرذمة من الهائمين بأسلحة بدائية.
الإنذارات والتحضيرات التي سبقت المعركة
الجنرال جوابيه يروي كيف قام الملك فيصل ببناء الجيش لمدة ثمانية شهور وقام بمنع التجارة مع لبنان الذي كان تحت سيطرة الفرنسيين، وعرقل إمدادات الجيش الفرنسي عن طريق الخطوط الحديدية بمنعه من استخدام خط حديد رياق-حلب، ورفض استخدام النقد الصادر تحت السيطرة الفرنسية مصدراً نقداً خاصاً بالدولة السورية.
كما أن أعمال المقاومة على طريق صيدا- عكا، وطريق طرابلس – حمص، التي قام بها يوسف العظمة أدت إلى سقوط قتلى بين صفوف الفرنسيين بلغ عددهم بين شهري كانون الثاني 1919 ونيسان 1920 ما مجموعه 3432 مجندا، و150 ضابط بحسب المؤرخ ساندرسون بك، هذا ما دفع غورو لاستدعاء جوابيه أحد أهم جنرالات فرنسا في الحرب العالمية الاولى لمواجهة هذه المشكلة.
بدأ الجنرال التحضير لزحفه نحو دمشق بزرع حاميتين في مرجعيون وطيبين الهدف منها قطع طريق إمدادات أو تعزيزات من الجنوب السوري، لأن الجنوب حينها كان يغلي مستعدا للثورة، وحرك حاميتي بانياس والمرقب الى طرابلس وتلكلخ، القوات المتقدمة أرسلت الى زحلة وسعد نايل والمريجات، وتم تدريبها على القتال في الشعاب الجبلية.
بشكل عام حرك الجنرال الفرنسي خطه الامامي إلى نهر الليطاني، كما قام ببناء مدرج للطائرات في سهل البقاع، واحتل ديرا للآباء اليسوعيين واستخدمه لتمويه عملياته.
رأى الجنرال جوابيه في انذار الجنرال غورو للملك فيصل نوعا من الليونة لأنه اعتقد أنه من واجب الجنرال منحه الاوامر باحتلال دمشق، من دون منح انذار أو مهلة، ولكن الجنرال غورو كان يغطي قواعد اللعبة السياسية بإنذاراته، أولها المرسل باليد عن طريق القائد الفرنسي ماندر، ابتدأه بالعبارة التالية: «من الجنرال غورو المفوض السامي للجمهورية الفرنسية في سورية وكيليكيا والقائد العام لجيش الشرق إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل». وتلا ذلك بيان طويل أنهاه غورو بالبنود التالية: «لذلك ترى فرنسا أنها مضطرة لأخذ الضمانات التي تكفل سلامة جنودها وسلامة السكان التي نالت من مؤتمر السلم مهمة الوكالة عليهم، فأتشرف بأن أبلغ سموكم الملكي أن هذه الضمانات هي كما يأتي»، ونذكرها باختصار: التصرف بسكة رياق – حلب الحديدية، إلغاء التجنيد الإجباري، قبول الانتداب الفرنسي قبول الورق السوري (الفرنسي)، تأديب المجرمين الذين كانوا أشد عداء لفرنسا وفق تعبيره.
امتثلت الحكومة السورية لإنذاره الأول الصادر في 14 تموز بمهلة أربعة أيام، فجمّدت المؤتمر السوري، وسرحت الجيش، وانسحبت من المراكز العسكرية المحصنة على الحدود يوم 18 تموز وانسحاب الجيش من مجدل عنجر في البقاع، الأمر الذي عدّه العظمة خطأ قاتلاً، لأن امتثال الملك فيصل لإنذاره الاول جعله يرفع من مطالبه خلال 24 ساعة الى درجة التعجيز في إنذار أخير مهين وصل قبل بزوغ فجر 23 تموز 1920، فيما كان جيش جوابيه قد اخترق الحدود وعسكر على مقربة من جديدة يابوس، بنية التقدم واحتلال ميسلون في جميع الأحوال.
الإنذار التعجيزي الأخير الذي رأى فيه الملك فيصل إهانة لا تغتفر، وانتهى إلى رفضه بعد فوات الإوان تضمن: المطالبة بقبول احتلال الجيش الفرنسي للأراضي السورية التي يتمركز فيها حاليا (جديدة يابوس قرب دمشق ومشارف حلب)، قبول مندوبين فرنسيين يسيرون الحياة العسكرية والاقتصادية والسياسية من خلال حكومته، محولين الحكومة والبرلمان الى مجرد واجهة للاحتلال.
حصل الجنرال جوابيه على أوامره المنشودة بتحريك الجيش في منتصف ليلة 21-22 تموز 1920، ولكن البرقية التي حملت الأوامر بالتحرك أفادت أيضاً بأن خطوط البرق كانت قد قطعت إلى سوريا مما قد يفيد أن الجنرال غورو لم يعرف بأمر امتثال الملك فيصل للإنذار الأول.
في الساعة الرابعة والنصف صباحا بدأ التحرك عبر نهر الليطاني حيث وجد أن الجسور ما زالت قائمة حيث فشلت محاولات تفجيرها، ولم يصطدم باي دوريات للجيش السوري أو حرس الحدود الفيصلي، احتل الجنرال جوابيه مجدل عنجر، بعد أن سحق قوات المناوشة الصغيرة المتفرقة بالقنابل والمدافع الثقيلة، لذلك قرر أن يتابع التقدم من دون حذر وسافر بنفسه مع قافلة المؤخرة.
في وادي الحريري التقى بضابط الارتباط الفرنسي لدى الملك فيصل الكولونيل كوس الذي أخبره أن ما قام به من اجتياز للحدود القائمة حينها هو اعتداء صارخ وغير مبرر على سوريا بعد أن كان الملك فيصل وافق على جميع شروط الجنرال غورو.
أجابه الجنرال جوابيه حينها باختصار بأنه يقوم بتنفيذ اوامر المندوب السامي، ورفض التراجع بل طلب منه أن يبحث الموضوع السياسي مع غورو، الاستطلاع الجوي أعلمه أن قوات الملك كانت قد انسحبت باتجاه دمشق وهكذا تابع التقدم وفي الساعة الخامسة مساء حيث دخل الجديدة (جديدة يابوس) ثم أمر بالتمركز في أماكن عالية مسيطرة على وادي زرزر.
تقارير استطلاع لاحقة أفادت أن القوات السورية تحت قيادة وزير الحربية الجنرال يوسف العظمة كانت تحضر للسيطرة على سهل زرزر لمنع القوات الفرنسية من اجتياز وادي القرن (مقرن)، لهذا أمر الدبابات المجهزة بمدافع 105 بالالتفاف والتمركز على فوهة لمقابلتها، وتراجعت القيادة الى مكان آمن.
مشاورات مع الكولونيل طلعت الذي قام بزيارة المخيم في الليل حاملاً رسالة من الملك فيصل إلى الجنرال غورو وموكلا بالتفاوض أثمرت عن تأخير اي تحركات اضافية لمدة 24 ساعة، رأى فيها الجنرال جوابيه فرصة لتعزيز مواقعه.
وجد جوابيه بدراسة لوجسيتة للموقع أن جيشه يواجه خطراً يهدد خطوط امداداته المحدودة بخط حديد واحد (رياق) ، وطريق شاحنات يصله بسهل البقاع، ويواجه نفاذ الماء حيث كان الجيش يحتاج إلى 90،000 ليتر من الماء بينما تعجز آبار المنطقة عن تامين أكثر من 20،000، مما دفعه لنقل الماء بالشاحنات من البقاع، هذا بالإضافة الى خطر الاصابة بوباء الجدري المنتشر في المنطقة حيث أن بضعة خيول وبغال كانت أصيبت بالعدوى وماتت في ذلك اليوم.
وهكذا رأى الجنرال جوابيه في احتلال ميسلون ضرورة قصوى من أجل تامين طريق الامدادات والاستيلاء على مياه آبارها، لهذا ورغم قبوله التوقف شفهياً، قرر حقيقة ألا يتوقف إلا بعد احتلال ميسلون.
خلال الليل رفع الجنرال غورو مطالبه من الملك الفيصل بإنذار ثان يستحيل على الملك قبوله ليمنح نفسه العذر السياسي الكافي لإعطاء أوامر تحرك جديدة للجنرال جوابيه.
لم يكن جيش جوابيه القوة الوحيدة التي تحركت شرقاً حيث تحرك فيلق آخر فرنسي مكون من 18000 عسكري نحو حلب وقام باحتلالها في 23 تموز ترافق ذلك مع أخبار مذبحة قامت بها الحامية المتجهة من بانياس شرقا الى تلكلخ، حينها حصل الجنرال جوابيه على الضوء الأخضر للاشتباك عند بزوغ فجر 24 تموز 1920.
رفض الملك فيصل للإنذار النهائي، ينفي عصيان يوسف العظمة لأي أوامر بعدم المقاومة، كما أن الملك فيصل لم يهرب قبل دخول الفرنسيين، بل انتقل مع حكومته الى مدينة الكسوة، حيث تمت مراسيم التسليم والاستسلام وحلت حكومة هاشم الأتاسي لتتشكل حكومة جديدة تحت سيطرة الفرنسيين.
فتحت الدبابات والمدفعية المتمركز في فتحة وادي القرن نيرانها في الساعة الخامسة صباحا، يصف الجنرال جوابيه المعركة في سجلاته العسكرية بأنها كانت صعبة للغاية واستغرقت 8 ساعات في الكيلومترات الستة من الممر الجبلي الشهير.
معركة ميسلون خلدت يوسف العظمة
قوات ميسلون السورية تمركزت في المرتفعات على شكل نصف دائرة بينما تمركزت مجموعات الفدائيين في الممر المؤدي الى مواضع التمركز الرئيسي، بين مجدل عنجر وميسلون، بهدف للمناوشة وعرقلة تقدم الفرنسسين، يتفرع الطريق عند سهل زرزر إلى شقين الرئيسي تحتله السكة الحديدية وطريق بيروت القديم في وادي بردى، والفرعي يلتف بجوار ميسلون.
شرعت البطارية 155 بقذف المدفعية السورية ولكن نيران المدفعية السورية سلطت عليها بشدة ما شل حركتها فأصبح تقدم القوات الفرنسية بطيئاً وأوقعها في خسائر في المعدات والأرواح، وفي منطقة وادي الزرزر انهالت نيران المدافع الرشاشة والمشاة بشدة على قوات الاحتلال وفقدت البطارية الجبلية 65 الفرنسية عدداً من خيولها ودوابها دون أن تستطيع إحكام الرمي أو التمركز.
كان جيش الجنرال يوسف العظمة قد بنى سواتر ترابية تعلوها رشاشات، معتقدا بإمكانية صد الدبابات بتلك الطريقة، ولكن الدبابات قامت بالتسلل من خلال فجوات وعرة وهاجمت المركز والميمنة والميسرة بقصف عنيف وأمنت تغطية كافية ليتمكن المشاة من الفرقة 415 وكانوا جزائريين من شن هجوم عنيف وحاسم بالالتفاف على الجناح الأيسر وضرب الخاصرة عن طريق استخدام ممر جبلي ضيق للدواب جنوب شرق ميسلون.
في التفاف أبعد جنوب شرق مروراً بدير العشاير التفت الخيالة المغربية حول الأجناح التفافة محكمة وهاجمت المؤخرة، بينما أمطرت المدافع من الأعلى قذائف وشظايا، ظلت الدبابات مشتبكة في مواجهة عنيفة لساعات عدة مع البطاريات والرشاشات السورية، ولكن عندما تمكن الفرنسيون من إشعال النار في صناديق الذخيرة دبت الفوضى وهرب من تبقى على قيد الحياة أما وزير الحربية الجنرال يوسف العظمة فقد استشهد بعد إصابته بالشظايا في الرأس والصدر، وأدى خبر استشهاده إلى سحق الروح القتالية للقوة الصغيرة الباقية والمتمركزة على الخط الحديدي، رغم أنها قاومت بضراوة، ولكن المعركة عتادا وعدة ومقدرة على الاستطلاع ولم تكن متكافئة إطلاقاً. لم ينسحب المقاتلون في الأجنحة إلا بعد سحق المركز بكامله وبعد استشهاد 1800 وجرح 400 آخرين.
الجنرال جوابيه لم يأخذ التحية العسكرية احتراما لجثمان الجنرال يوسف العظمة فقط، وانما أشرف على دفنه في جنازة عسكرية رسمية لائقة بضابط بمستواه وبحضور حرس الشرف.
يكتب الجنرال جوابيه عنه معجباً:” كان ضابطا متميزا ولقد رأيت كيف نظم مواقع جيشه وخنادقه بمواجهتنا تحت حماية المدافع -كما تملي مقاييس الدفاعات العسكرية الحديثة- وجدنا أنه قام بعمل بارع فيما يخص تخطيط التمركز في مواقعه كما أنه قام بمد خطوط الهاتف بين الخنادق لضمان التواصل الفعال مع قواته”.
إلى جانب البنادق فإن جميع المعدات التي استخدمها كانت من صنع ألماني عائد بتاريخه الى الحرب العالمية الاولى والتي كانت أصلا خاصة بالجيش العثماني في الحرب العالية الأولى. جميع صناديق الذخيرة حملت النقش الالماني: für die Türkei.
بقي العظمة يدير المعركة بإمكانيته المتوفرة حتى قضى نحبه بقذيفة إحدى الدبابات الفرنسية وذلك في السابع من ذي القعدة 1339 هـ / 24 تموز 1920 م ثم دامت المعركة ثماني ساعات انتهت بالقضاء على الجيش السوري المقاوم، أي أن يوسف العظمة قتل بقذيفة دبابة وليس بطلقة في معركة دامت 8 ساعات خسرها السوريون بعد أن قدموا كل ما لديهم.
التعليقات متوقفه