ظروف معيشية قاسية تدفع سكان الساحل السوري للتفكير جدياً بالرحيل – بهيجة عبدالله
“لم يبق سوى البراميل المتفجرة لتزول الفروق بيننا وبين الأراضي المحررة من سوريا”، هكذا يتندر السوريون المعارضون من سكان مناطق سيطرة النظام بالساحل السوري على حالهم، فهم يلخصون بمثل هذه العبارات أحوالهم التي باتوا لا يحسدون عليها، لاسيما في اللاذقية، فالتغني بالأمن والأمان وتوفر الخدمات والحياة الطبيعية، قياسا بالمناطق المحررة ، باتت جزءا من دعاية ممجوجة للنظام، الذي أصبح عاجزا أصلاً عن توفير معظمها، ليصل المؤيدون إلى مرحلة من التذمر يخططون معها لتنظيم مظاهرة! تطالب حكومة النظام بتوفير الماء والكهرباء لمدينة اللاذقية، التي قدمت الكثير من التضحيات من وجهة نظرهم، لتكون جائزتها المزيد من عمليات التشبيح، وإذلال البشر، والتلاعب بقوت يومهم.
أصبح الواقع أسوء بكثير مما هو متوقع، في ظل فقدان الكثير من معايير الأمان، والتعليم، وتدهور البنية التحتية، والأوضاع الاقتصادية المتردية، التي انعكست بشكل مباشر على طريقة حياة سكان مناطق الساحل السوري، وغيرتها جذريا في بعض الأحيان، لتسجل نسبة كبيرة من الأسر تحت خط الفقر، في الوقت الذي كانت تصنف كطبقة متوسطة الحال خلال سنوات خلت.
كل شيء متوفر في السوق لكن بعيدا عن متناول السكان
لا تخلو أسواق اللاذقية من حاجات المواطنين اليومية، كالخضار والفواكه واللحوم بأنواعها، إضافة الى المستلزمات المنزلية ومنتجات المصانع الصغيرة، لكنها تتميز بأسعار مرتفعة، لا يستطيع المواطن ذو الدخل المحدود اقتناءها.
يؤكد نزار، وهو موظف حكومي، أن راتبه يعاني من تراجع مستمر في قيمته، نظراً لارتفاع سعر صرف الدولار المستمر مقابل الليرة السورية التي تنهار رويداً رويداً، دون أن يتخذ النظام أية خطوة للسيطرة على الموضوع الذي يؤثر بشكل مباشر على المواطن البسيط بالدرجة الأولى، يقول نزار للغربال: تصل قيمة راتبي في الوقت الحالي إلى سبعين دولاراً فقط، ولا تكفي سوى بضعة أيام في الشهر، نظراً لأن التجار المتحكمين بالسوق، ومالكي المتاجر الصغيرة، يربطون أسعار موادهم بالدولار، على الرغم من أن الليرة السورية مازالت العملة الاولى للتداول هنا، ونحن كمواطنين عاديين لا نستطيع الدخول في جدل عقيم معهم لن يؤدي بنا الى أي مكان.
ولا بد من الاشارة الى قيام حكومة النظام السوري، خلال الخمس سنوات الماضية، بزيادة رواتب الموظفين العاملين لديها، بالاعتماد على مفهوم تقسيم الراتب الى شرائح، وحساب نسبة الزيادة حسب كل شريحة، آخر الزيادات كانت بداية العام الحالي، وتقضي بصرف تعويض معيشي قيمته4000 ليرة سورية، جاء كمنحة غير رسمية من إيران، بحسب مصادر مقربة من حكومة النظام، بعد ارتفاع أسعار الخبز والمازوت، لكن الموظفين ومن ضمنهم نزار، يجدونها عديمة النفع، فما يقارب عشرة دولارات لن تكفي مستلزمات شهر تشرين الأول وحده، بما يحتضنه من بدء العام الدراسي، وعطلة الاعياد التي أصبحت كارثة للأسرة السورية، في ظل ارتفاع متزايد للأسعار أصاب آخرها أسعار الفروج الحي والمنظف، ليصبح الحصول عليه حلماً من أحلام المواطن السوري مؤجلة التحقق .
الخدمات الأساسية شبه معدومة
تتزايد ساعات توفير الكهرباء والمياه في اللاذقية بشكل تدريجي، ليصل التقنين في الفترة الأخيرة الى ساعتي إنارة، مقابل أربع ساعات قطع، تزداد أحيانا ليكون البرنامج خمس ساعات قطع مقابل ساعة واحدة إنارة.
أربع سنوات خلت أكد خلالها النظام أن “العصابات الإرهابية المسلحة” هي من تقوم بتفجير المحولات مما فجر هذه الأزمة، الأمر الذي نفته كتائب الثوار مراراً، ليضطر النظام خلال الأشهر الماضية للاعتراف بعدم توفر الفيول اللازم لتشغيل محطات التوليد لديه، كما أن القرار الصادر مؤخرا بإلغاء الشريحتين الأولى والثانية من حساب الاستهلاك المنزلي، سيزيد من قيمة فاتورة الكهرباء بشكل كبير.
أحد المهندسين العاملين في مديرية كهرباء اللاذقية، أكد للغربال أن المواطنين يصبون جام غضبهم على المديرية والعاملين فيها بخصوص وضع الكهرباء، متناسين أن العاملين لا حول لهم ولا قوة، حتى وزير الكهرباء الذي بات محط سخرية للمواطنين، ليس لديه صلاحيات سوى توزيع المخصصات اللازمة لكل محافظة، ويؤكد المهندس في حديثه أن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى والأخيرة على رأس النظام والزمرة المحيطة به، والتي تجد المال الكافي لتمويل عمليات عسكرية وتأمين رواتب لا تقطع للموظفين، لكنها تعجز عن تأمين الحد الأدنى من لوازم توفير الطاقة الكهربائية.
من جهتها أكدت وزارة الكهرباء في حكومة النظام مؤخراً، أنها تحتاج يوميا 150 مليار ليرة سورية لإيقاف التقنين الكهربائي بشكل نهائي، وتأمين الوقود اللازم لتوفير التيار لخمس محافظات بقيت تحت سيطرة النظام حتى اللحظة، مما أثار حفيظة المواطنين الغير مقتنعين أصلا بهذه المبررات، خاصة وأن أزمة انقطاع المياه باتت تؤرقهم بشكل كبير، فربات البيوت يحتجنها في كل ثانية من تفاصيل حياتهن، وتنوه بسمة، وهي ربة منزل من اللاذقية، أن ساعتين فقط من المياه يوميا عند الفجر، لن تكفي لإتمام جميع واجباتها المنزلية، لاسيما وأنه الوقت الوحيد الذي تتوفر فيه المياه مع الكهرباء معاً، لافتة إلى أن وضعها أفضل من وضع صديقتها التي تسكن في ضواحي اللاذقية، وتضطر لتعبئة خزانات المياه بمبلغ 3500 مرتين في الأسبوع الأمر الذي يشكل عبئاً مالياً إضافياً عليها.
تضيف بسمة: المريب في الموضوع، أننا شهدنا هطولاً متميزاً من مياه الأمطار التي رافقت العواصف المتتابعة على سورية، واضطرت مديرية الموارد المائية إلى فتح أقنية السدود التي كادت تنفجر لشدة التخزين، وقتها شكرنا الله على نعمه، وتوقعنا موسما صيفياً وفير المياه، لكن الوقائع جاءت عكس التمنيات، دون تقديم تفسير للمواطن سوى انقطاع الكهرباء، وصعوبة ضخ المياه للأحياء بدونها.
للمحروقات صعبة المنال
ارتفعت أسعار المحروقات أربع مرات على الأقل منذ بداية العام الحالي، وهي غير متوفرة بكثرة في الكازيات المخصصة للبيع، والتي تشهد ازدحاماً خانقاً، ويعود للطلب المرتفع على البانزين والمازوت بسبب لزومها لتشغيل المولدات الكهربائية التي غزت أحياء اللاذقية بسبب غياب الكهرباء.
أما الغاز المنزلي، فيأتي أغلبه بعبوات تالفة، يحصل فيها تسريب أثناء الاستعمال، ما يتسبب بحرائق شبه يومية للمنازل، في حال كان حظ ربة المنزل سيئا ولم تنتبه للتسريب.
الشتاء هذا العام لن يكون سهلا على الأسر السورية، مصادر كثيرة أكدت انه سيكون الأقسى خلال الثلاثين سنة الماضية، أخبار بدأت تتناقلها الألسن هنا ليغرق الناس في حساب كيفية تأمين التدفئة لفصل الشتاء، الذي لن يكون أسوأ من سابقه، مع انقطاع التيار الكهربائي، وعدم توزيع قسائم المازوت المدعوم للمواطنين، وفقدانه من الاسواق، في ظل وعود حكومية بتوفيره عن طريق الخط الائتماني الإيراني الذي زُعم أن إيران قدمته للنظام السوري.
لا علاج للمرضى
رفع أسعار الأدوية الأخير بنسبة 50 بالمئة، كان القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للأسرة السورية، التي كانت تستطيع الحصول على أدوية الأمراض المزمنة بسعر معقول، فآخر ارتفاع شهده هذا القطاع، كان مع بداية الثورة السورية، ومع استمرار ارتفاع سعر الدولار، وارتفاع أسعار المواد الأولية اللازمة للتصنيع، طالبت شركات الأدوية بتخفيض التعرفة الجمركية المفروضة على المواد الأولية اللازمة لتصنيع الأدوية، الطلب الذي قوبل بالرفض من قبل حكومة النظام، فاضطرت هذه الشركات التهديد بإغلاق معاملها، إن لم تقرر وزارة الصحة رفع أسعار الأدوية، لتعويض الخسائر الحاصلة للشركات، وبالفعل استجابت الوزارة سريعا لهذا الطلب، الذي كان المواطن ضحيته بحسب رواية الصيدلي تيسير، الذي سرد للغربال تلك المعلومات قائلا: كان من الممكن أن نصحو في يوم من الأيام لنرى الأدوية وقد فقدت فعلاً من السوق، قرار رفع الأسعار جاء لصالح الشركات كليا لتستمر في عملها، أما المواطن فسيدفع من جيبه فارق سعر الصرف، ليحصل على الدواء الذي يريده، ولا أعتقد أن الشركات تتحمل اللوم الأكبر هنا، فالحقيقة معروفة وواضحة للجميع ولا داع لتقاذف التهم.
طبعا ارتفاع سعر الأدوية سبقه مضاعفة تعرفة الكشف الطبي في العيادات الخاصة، التي أقرتها رسميا نقابة الأطباء، ووصلت في بعض الاحيان الى 1500 ليرة سورية، وهو مبلغ كبير لأسرة محدودة الدخل، تضطر في كثير من الاحيان الاستعانة بخبرة الصيدلي، لشرح عوارض المرض، أو التوجه الى المشافي الحكومية، التي تنحدر خدماتها من سيء الى أسوء، بسبب عدم توفر الكثير من الخدمات الطبية، وتوقف النظام عن دعم الكثير من القطاعات الصحية، مما ضاعف الأعباء وزاد الهم اليومي للسكان.
الرحيل هو الحل
فكرة الاستسلام لهذه العواصف غير مدرجة في قاموس السوريين، الذين اعتقدوا بداية الأمر أن الوضع مؤقت، فاستعانوا ببدائل سريعة تساعدهم على تجاوز الأزمات، كاستخدام الحطب وأي شيء قابل للحرق، لتدفئة اجسادهم شتاء. وجاءت البطاريات القابلة للشحن، و”ليدات” الإضاءة كحل مؤقت لتوفير الإضاءة، أما لائحة الطعام، فكان الاختصار فيها، الحل الوحيد لتحمل كلفتها اليومية، لتقتصر على البرغل والبقوليات في بعض الاحيان، فالوضع المؤقت الذي طالما تفاءلوا بقرب انتهاءه ، تبين أن دائم، لا بل باتت قسوته تزداد عاما بعد آخر، في ظل عجز من حكومة النظام عن تسيير أمور المناطق الخاضعة لسيطرتها وأامين احتياجاتها.
“لا بد من الرحيل”، يقول مصطفى، أحد تجار المدينة، الذي أوضح أن العمل بات شبه مستحيل في ظل الفساد المستشري في اللاذقية، وعدم تأمين طرقات النقل البرية لحركة البضائع، وخروج عدد كبير من المحافظات عن السيطرة، مما يعني فقدان سوق آخر لتصريف البضائع، كما أن ارتفاع نسبة البطالة، وعدم توفر فرص عمل للشباب، إضافة الى تراجع سعر صرف الليرة السورية، وعوامل كثيرة أخرى، باتت محرضاً للسوريين على الرحيل من مناطق النظام قبل المناطق الأخرى، التي تعاني من حرب طاحنة تؤثر على استقرار المعيشة فيها، حيث يرى مصطفى أن الفئة الميسورة باتت تفكر بالرحيل قبل فئة الفقراء المسحوقة، الذين يعيشون في ظل ظروف حرمتهم من إمكانية فعل شيء، سوى انتظار معجزة ما، تخلصهم من جحيم يستهلك حياتهم.
التعليقات متوقفه