هذه سنّة الحرب! – ضياء صابوني
إذا كان لا بد لنا من فهم سنّة الحياة، وطبيعة تقلباتها، وسر الأحداث بالغة الأهمية في كل تفاصيلها؛ فإنه لا بد لنا أيضاً من فهم سنّة الحرب ونواميسها، على اعتبار أنها حدث أصيل تبنى عليه أسباب نشوء وأفول الأمم والدول والمجتمعات على مر التاريخ، لا تجاهلها والتعامل معها كأنها مجرد مرض ينبغي الاستشفاء منه، أو اعتبارها نشازاً في عمر الزمان وتقلباته، فليس هذا ما يقوله التاريخ، بغض النظر عن الخلاف القائم حول أصل العلاقة بين الشعوب وما إذا كانت مبنية على الصراع أو على الحوار، فليس هذا مناط البحث، وإنما هو عن واقع حتمي أوجز ابن خلدون وصفه في مقدمته فقال: “الحرب أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل” ..
وإذا سلّمنا بما سبق فلا بد إذن من نقض مسائل دارجة تم اعتمادها بين الناس كمسلّمات دون أي دليل أو استقراء أو برهان .. كاعتبار الحروب التي نشهدها ونشاهد أهوالها سابقةً لم يشهد مثلها التاريخ، أو اعتبار مأساة شعب ما جراء الحرب شيئاً يفوق الوصف واحتمال العقل البشري، أو الاعتقاد بأن معركة ما في زمان ما هي استهلال أو تمهيد لمعارك كبرى وملاحم فاصلة أشد ضراوة وأكثر شمولية، بناءً على تفسير ديني للمستقبل الغيبي دون وجود دليل قطعي يحدد الزمن المقصود بالنص !..
ولعل الخوض في كل مسألة من المسائل الثلاث السابقة يحتاج لقراءة مفصلة، ولكن ما يمكن مناقشته عن أسبابها هو التطور الهائل في العقدين الأخيرين في وسائل الاتصالات ما سمح بوصول الخبر في ذات الوقت من أقصى الأرض إلى أقصاها، وانتشار الصور والأفلام والتقارير التي لم تدع شاردة وواردة إلا ووثقتها، بينما كان ذلك صعباً قبل 30 عاماً، وكان مستحيلاً قبل 150 عاماً إلا من خلال الكتابة فحسب، وعمر الحضارات الإنسانية والأمم والدول التي نعرفها منذ اختراع الكتابة يزيد عن 5000 آلاف عام، فتخيلوا !
وثمّة مقولة عجيبة نقرؤها ونسمعها كثيراً في كلام الناس وحوارات المثقفين في أثناء كلامهم عن الحروب وأحوالها، فيتساءلون: “كيف يحدث هذا في القرن الواحد والعشرين”، وكأن مقومات عصر العولمة وما بعد الحداثة والتطور الذي لم يشهد التاريخ مثله فيما نعلم يقتضي أن لا تحدث حروب ومجازر وأهوال تشبه ما كان يحدث في العصور السابقة، رغم أنه لا رابط بين الأمرين، ليس لأن مسألة الحرب حتمية فحسب؛ بل لأن أخلاقيات الحرب لا علاقة لها بالتطور المادي على الإطلاق.
وربما يكون السبب الحقيقي لعدم قدرتنا على استيعاب أهوال الحرب هو الرفاهية التي حققتها الحياة العصرية، والتي جعلتنا نتمسك بالتفاصيل والكماليات، فلا نتخيل فقدها، حتى أصبحت جزءً أصيلاً من كينونتنا، ما جعل تعلقنا بها كتعلقنا بالحياة نفسها، المنزل الفاخر، والسيارة الفارهة، والمكتب رفيع المستوى، ودرجة رجال الأعمال في رحلة الطائرة، وفندق من فئة خمس نجوم في زيارة عمل أو إجازة عائلية، والهاتف الذكي، بل وحتى كوب القهوة السريعة ! كلها أشياء لا تتناسب مع طبيعة الحرب أياً كانت الحرب، وليس من السهل على من تعودها أن يتأقلم مع ظروف الحرب.
وأعجب مما سبق أن يظن أحدهم أن حروب القرن الواحد والعشرين ينبغي أن تكون أكثر حداثة وأقل سوءاً مما سبقها، فهذا ضرب من السذاجة، لأن الحروب كلها مهما كانت أدواتها؛ لا بد أن يحدث فيها القتل والأسر والاعتقال والخطف والفقد والتشريد والتهجير، ولا بد أن تدمر بعض المدن، ولا بد أن يتصدع فيها المجتمع، ولا بد أن تنقسم فيها الآراء، ولا بد أن تسوء فيها ظروف الحياة والمعيشة، ولا بد أن يستغلها تجار الحرب، ولا بد أن تتدخل في صراعاتها دول الجوار؛ كل دولة حسب مصلحتها، حدث هذا في كل الحروب، وما زال يحدث، وما زلنا نعيد أحداث التاريخ، ثم نتهم التاريخ بأنه هو من يعيد نفسه !
وذلك عدا عن أن التطور الصناعي لحضارة القرن العشرين؛ كان أحد أسوأ نتائجه تطور صناعة السلاح بشكل مذهل لم يعرف التاريخ مثله قبل مئة عام، ابتداءً من البندقية الرشاشة مروراً بالطائرات والصواريخ بعيدة المدى والقنابل النووية ووصولاً إلى الأقمار الاصطناعية ذات الاستخدامات العسكرية.
والحرب في سورية ليست استثناء من القاعدة، وما مر عليها خلال خمس سنوات تقريباً ليس بدعة في الحرب، ونتائجها ليست محسومة بعد، ومن يقرأ عن تاريخ الحربين العالميتين ويشاهد صور الدمار في العواصم الأوربية العريقة سيرى الأهوال والعجائب، ومن يتتبع ما حدث للأرمن قبل مئة عام، أو يطلع على قصص حروب الشركس قبل مئة وخمسين عاماً، والذين لجأ كثير منهم إلى بلادنا واستقروا فيها، سيسمع ما تشيب له الولدان، هذا فضلاً عن حروب الأمم الغابرة !
بقي إذن أن نعيد نظرتنا في الأولويات، ونقدر الحياة قدرها، ونفهم أن مظاهر الحياة زائلة، ولا تبقى إلا المبادئ والقيم التي تقوي الإيمان بأهمية التضحية في سبيل الهوية والانتماء والوطن والأرض والمثل العليا، ولا يبقى بعد هذا إلا السيرة الطيبة والذكر الحسن، وكلما زدنا من قدرتنا على التكيف مع تقلبات الحياة وتقبلناها على بساطتها دون تكلف مهما ساءت الظروف؛ كلما عرفنا قابليتنا للنصر أو الهزيمة في أي معركة حتمية قادمة، فهذه هي سنّة الحرب.
التعليقات متوقفه