الهجرة تفجر رفض نساء سوريا لواقعهن الاجتماعي – هبة عز الدين
خلال خمس سنوات متواصلة من الثورة والحرب، وهما مصطلحان كانا سابقاً متنافرين لكن الزمن عقد قران الدم بينهما، حملت المرأة السورية العبء الأكبر على الصعيد الاجتماعي والعائلي، المرأة التي كانت في أحسن حالاتها حين كانت “حرمة” لزوج، لتتدرج بعدها ضمن أطياف هذه الدرجة “الحريمية” تبعاً لمكانة الزوج الاجتماعية أو الثقافية أو المادية، لكنها لا تغادر ذلك السرب، وإلا اعتبرت ناشزاً بمنظور مجتمع يعاني من انحراف معياري بنظرته للمرأة، فتقييم المرأة بهذا المجتمع يغض الطرف عن كفاءتها العلمية أو ملكاتها الفكرية، حتى باتت الشهادة الجامعية والإبداع في الفن والرسم، في نظر مجتمعنا، رفاهية محدثة، وقيم كمالية، تحسن من كينونة المرأة كأم ومربية ليس أكثر.
الثورة حركت الرغبة بالاستقلالية لدى النساء
بدأت المفاهيم التي تسيطر على نظرة المجتمع السوري للمرأة تتغير تباعاً في ظل الثورة التي كانت حالة تغيير جذري ونسف لأسس روابط كانت تعتبر مقدسة، كالارتباط التبعي النمطي مع المجتمع، والعلاقة الزوجية والأسرية، فبدأت المرأة تبحث لأول مرة عن مساحات وفضاءات خاصة بها، دون أن يحطمها إحباط المجتمع أو الذكر في عائلتها والذي قد يتمثل بأب أو أخ أو زوج أو ابن، وربما كانت هذه التجربة أول تجربة المرأة السورية لعالم الخصوصية الذي تفتقده عموماً في أجواء السرديات الأنثوية الشرق أوسطية.
الخوض في عوالم الخصوصية الصغيرة المحدودة، أتاح لبعض النساء فرصة الحصول على التمكين المادي والاستقلال الفكري، كما أن انهيار كثير من المنظومات القيمية المصطنعة أعفاهن من التزامات كبلت أذرعهن لعقود طويلة.
أصبحت المرأة السورية أكثر جرأة بطرح قضايا نسوية بحته، يضعها المجتمع تحت بند المحظورات، كالحب والجنس والدين، فاكتظت مواقع التواصل الاجتماعي بأسماء نسوية وهمية تتساءل في مجموعة على فيسبوك عن العلاقة الجنسية مع الشريك، وتناقش في مجموعة أخرى حقوق المرأة بمنظور الدين ومدى وملاءمتها للحياة المعاصرة، هذا النوع الجديد من الحركة النسوية أحدث اضطرابا في هيكلية الأسرة، يشبه إلى حد كبير الاضطرابات الهرمونية الطبيعية في الجسم أثناء الخوف أو الصدمة.
لم يتمكن المجتمع الجهادي بشقيه، المعارض المتمثل بتنظيم القاعدة وفروعه والمؤيد المتمثل بحزب الله والكتائب الشيعية الأخرى، ومعهما المجتمع الكنسي الذي نأى بنفسه عن مواكبة التغيرات السوسيولوجية، من أن يوازن بين تلك الاضطرابات من جهة والنواة الأسرية من جهة أخرى، فلجأ إلى كبح جماح المرأة بالترهيب وضرب الأعناق كما حدث في ريف إدلب والرقة ودير الزور.
ما بعد الهجرة ليس كما قبلها
لم يكن نصيب المرأة السورية من المعاناة في رحلة الهجرة أقل من الرجل، فهي خزينة النقود والأوراق الثبوتية في حمالة صدرها أو في تلك الصرة القماشية المعلقة بخيط في رقبتها، وهي المسؤولة عن الأطفال والحامي لهم من الضياع، كما أنها حاضنة العرض والشرف الذكوري لرجل قد لا يتوانى عن صفعها إن ارتفع غطاء شعرها أو طرف عباءتها أو احتك بها رجل أثناء عبورهم بـ”البلم” نحو اليونان.
التزمت النساء السوريات الصمت أثناء رحلة الهجرة تلك، ليكسرن حواجزه فوراً بعد أن وصلن إلى أوروبا، سمر (45 عام) سيدة من دمشق، تقول لكل من يقابلها أن بيت أهلها مقابل الجامع الأموي، قرب سور دمشق القديم تماماً، أي أنها دمشقية عتيقة. تزوجت في عمر الثالثة عشر من تاجر دمشقي يكبرها بعشرين عام، وأنجبت منه سبعة أطفال، أكبرهم يدعى محمد ويبلغ من العمر 29 عام.
في إحدى جزر اليونان اجتمع السوريون المهاجرون على أصوات شجار بين محمد وأمه وبينهما رؤى الأخت الصغيرة لمحمد ذات الثمانية أعوام، انتهى الشجار بإكمال محمد الرحلة لوحده بعد أن رفضت والدته سمر السماح له بأخذ أخته معه. تقول سمر: “لا يختلف محمد عن والده، كلاهما أكلاني لحماً ورمياني عظماً، لقد أتى معي ليلم شمل زوجته وأحضرت ابنتي لتلم شمل أخواتها، لا لألم شمل أبيه” تنهمر الدموع من عينيها، وتصمت مطرقة رأسها، ثم تخلع الحجاب بعصبية مخيفة. تمسك الحجاب بيديها وتمسح به دموعها “كنت سأذهب في رحلة مدرسية مع صديقاتي عندما أخبرتني والدتي أن أم عبد الله أي حماتي، ستأتي لزيارتنا، وعلي أن أزيل شعر جسدي وأرتدي فستانا قصيرا لاستقبالها، كانت أول تجربة لي بإزالة الشعر، مؤلمة، قذرة، تصيبني بالغثيان كلما تذكرتها، في اليوم التالي أتت أم عبد الله للزيارة، وقبل أن أحضر الفواكه، أتت أمي للمطبخ وقالت لي أننا سنرافق أم عبد الله في زيارة لشيخة في حارة أخرى، مقابل الجامع الأموي، وعلي أن أرتدي العباءة والحجاب، اللذان كنت ارتديهما فقط في رمضان عندما نصلي في الجامع الأموي، مضى كل شيء بسرعة حتى وجدت نفسي زوجة، علي أن أرتدي الخمار، وأحضر دروس الدين عند الشيخة، وأزيل الشعر كي أحافظ على النعومة لأنال رضى زوجي الجنسي. بعد عشرين سنة، نزحت إلى دمشق عائلة حمصية، لديهم أربع فتيات وابن وحيد أستشهد في الحرب. أخبرتني جارتي أنهن تتقن حف الوجه بالخيط، فكانت البنت تأتي كل شهر لتحف لي وجهي، رآها زوجي عدة مرات، ثم اكتشفت أنه تزوجها. أكرهه، لن ألم شمله، وسأطلقه، ولن أتزوج مرة أخرى، سأصاحب، كما كانت كل صديقاتي يفعلن في الصف السابع”. ميراي (37سنة) من ريف درعا، الريف الذي اكتشفنا نحن السوريون لاحقا أن ثمة مسيحيين يقطنون فيه. مغرية تلك الأنثى، كما يقول الشبان الذين رافقوها في رحلة الهجرة، لكنها حزنها يقتل تلك الشهوة التي تعتري أي شاب تجاهها. تبتسم بخجل عندما تسألها النسوة في مخيم الانتظار: كيف طاوع زوجك قلبه أن يتركك تأتي وحيدة؟ تجيب: مازال يراني ميراي ابنة العشرين عاماً. لا تفهم معظم النسوة قصدها، لكنهن لا يكترثن كثيرا، فإرضاء غريزة الثرثرة مع سيدة أخرى أهم من فهم جملة ميراي. والد ميراي متوفي منذ كانت طفلة، وأخوها الأكبر ضابط في الجيش السوري، لذلك أمضت حياتها في نظام أشبه بالعسكري. تقول ميراي: “لا شيء كان يميزني عن بنات درعا المسلمات سوى الحجاب، بل أنهن كن يرتدين بناطيل ضيقة، بينما كان أخي يحضر القماش العسكري، ويطلب من أمي أن تفصله لي على أن يكون فضفاضاً. ربما كان أخي محقاً، فقد كنت أزن 100 كيلو غرام”.
قررت ميراي عندما كانت في عمر العشرين أن تتبع حمية غذائية، تجعلها نحيلة، الأمر الذي سيجذب الشبان لها، استمر الريجيم سنة كاملة، خسرت فيها ميراي أربعين كيلو غراماً، ما أصاب جسدها بترهل احتاج لاتباع رياضة عند خبير رياضي، أو عملية شد.
بيئة درعا المحافظة والعرف الاجتماعي الذي فرض على المسلمين والمسيحيين هناك، وضعف الإمكانيات المادية منعها من ذلك. في إحدى المناسبات الدينية في الكنيسة، تعرفت ميراي على زوجها جورج، الذي قام بخطبتها ليتزوجا في العام ذاته.
تقول ميراي ” يوم تكليلي، كنت سعيدة جدا لأنني أبدو أنيقة بالفستان الأبيض، كنجوى كرم في إحدى أغنياتها، كما أني أحسست بتحقيق ذاتي، فسأجلس مع صديقاتي وأقول لهن زوجي وزوجي وزوجي. انتهت الحفلة وذهبنا إلى بيتنا، فتفاجأ جورج بترهل جسدي، فتركني وحيدة في غرفتي وجلس يشرب الكحول في الصالون حتى ذهب في نوم عميق. ارتديت بيجاما النوم وغفيت على مخدتي المنقعة بدموعي، ولم أستيقظ إلا على صوت جورج، يطلب مني أن أخلع البيجاما بسرعة ليتم المهمة قبل أن تستيقظ أمه”، تدير ميراي وجهها وتكمل بصوت مبحوح” كنت كالنعجة”.
ميراي لديها ابن وحيد اسمه عيسى، كبر بسرعة ووصل لسن الخدمة الإلزامية، الأمر الذي أثار قلقها فهي لا تريد لابنها الوحيد أن يَقتل سورياً أو يُقتل. فقررت أن تهاجر من سوريا، لكن جورج لم يتقبل الفكرة، وكان يردد على مسامعها” ابنك ليس أفضل من شباب البلد، كلهم يذهبون للخدمة الإلزامية. إن كنت مصرة فلتذهبي لوحدك”، حسمت ميراي أمرها، وهاجرت. لم تكن ميراي تتوقع صعوبة الرحلة ومشقتها، كما أنها لم تتوقع قسوة جورج وعيسى، اللذان لم يكلفا نفسيها عناء الاتصال بها أو السؤال عنها. تقول: “الرب يسامحهم، لازال يراني جورج ميراي المترهلة ابنة تلك الليلة رغم أني أجريت عمليات شد متكررة، ومازلت أراه جورج ابن تلك الليلة الذي عاملني كالنعجة. لكني سألم شمله، وشمل ابني، لن أخذله، لكن إن وصل إلى هنا لن أعيش معه، لم أعد نعجة”.
أم علي (50 سنة) عراقية متزوجة من سوري منذ ثلاثين سنة، وصلت إلى أوروبا بعد رحلة مضنية عبر ليبيا، فقدت فيها ابنتها منى ذات الست عشرة سنة. يتهامس اللاجئون في المخيم حول أم علي التي ترفض الكلام لأي أحد، ونادراً ما ترد السلام إن بادرها أحد بتحية، جيرانها يقولون إنها خرجت من غرفتها ذات ليلة، ووجهها مدمى بعد أن ضربها أبو علي بعلبة دك الدخان، إثر نوبات بكاء ونواح متواصلة استمرت لأشهر. إدارة المخيم فصلت بين الزوجين، وحذرت أبا علي من الاقتراب من غرفة أم علي. بعد محاولات عديدة للحديث مع أم علي، تقترب من المقعد الخشبي الذي تتوسطه “أركيلة”، وتسأل: سادة أو فيها كوكو؟ تقهقه السيدات وكأن مصطلح كوكو ذاك مألوف لديهن (وهو كناية عن الحشيش الذي انتشر تعاطيه بين اللاجئين)، ثم يجبن: سادة، لا تناسب ذوقك!
تجلس أم علي على حافة المقعد، تنظر مطولا إلى الفحم المتقد، تزفر، وتقول: “داعش في سوريا والعراق ليست بدعة، وليست مستحدثة، هي من قلوب الشعب وأوردتهم، وأسنتهم، وأسنانهم، هي حتى أن نسبة عالية من “ذكورنا” يفكرون بمواهبهم الفحولية فقط، ولا يرون في المرأة إلا فرجها، وهذا بعينه هو الإقصاء الذي تتسم به داعش. لن تنهض دولنا كما نهضت أوربا إلا عندما يموت أمثال أبو علي”.
سمر وميراي وأم علي هن أمثلة عن مئات الحالات لنساء قررن الانفصال النفسي أو الجسدي عن أزواجهن، يشعرن بفرحة الاستقلال وبدأ حياة جديدة، كما ينازعهن شعور بالذنب تجاه عائلاتهن وأولادهن. هؤلاء النساء يقال عنهن، أسعد التعيسات حظاً، وهن يرين أنفسهن اليوم في المهجر نساءً بعد أن كن يرين أنفسهن مجرد “حريم” في الوطن.
التعليقات متوقفه