نبع الفيجة.. تعويذة “الماء والدم” – منيرة بالوش
مفاوضات بين المتصارعين تهمل عطش سكان النبع التاريخي وتهجرهم
تجلّى الصراع على مصادر المياه خلال السنوات الأخيرة، في الثورة السورية، وبرز كواحد من أهم أهداف السيطرة، وورقة ضغط استخدمت في المفاوضات وأداة من أدوات الحصار على المدنيين لإجبارهم على المصالحة أو تهجيرهم عن مناطقهم، فيما عدّته الأمم المتحدة “جريمة حرب” ترتكب بحق السكان بهدف إخضاعهم وتعطيشهم.
تفسير المنظمة الدولية جاء اعتماداً على المادة 54 (1) و (2) من البروتوكول الإضافي للقانون الدولي الإنساني والتي تحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية وشبكـات مياه الشرب والري.
لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة وصفت في 14 آذار 2017، القصف الذي استهدف مياه نبع الفيجة بـ “جريمة حرب”، إذ
تم استخدام نبع الفيجة كسلاح حرب، باعتباره أهم الينابيع التي تغذي أعداداً كبيرة من السكان بمياه الشرب، إضافة لمياه الري.
أهمية النبع تاريخياً
عرفت منطقة وادي بردى بأقدم المناطق المأهولة بالسكان في العالم، بدء من العصور الآرامية واليونانية ومن ثم الرومانية، ويعود اسم “الفيجة” في الأصل لكلمة يونانية هي “بجة” وتعني نبع الماء أو العين، ويقال إن أصلها إغريقي وتعني المنطقة المنخفضة المحصورة بين الجبال.
وتقع بلدة عين الفيجة في قلب السلاسل الجبلية بارتفاع (890) متر عن سطح البحر، يحيط بها جبل الهوات من الشرق وجبل القلعة من الجنوب ويخترقها نهر بردى الذي يُعتبر بمثابة شريان الحياة لمدينة دمشق، فهو النهر الوحيد الذي يمر بها، مغذياً البساتين والأراضي الزراعية على أطرافها من أشجار الجوز والعنب والزيتون والتين غيرها من الأشجار المثمرة، مشكلة زناراً أخضراً حول المنطقة مما زاد في جمالها ورونقها.
وتحتوي الحديقة المحيطة بالنبع على مجموعة كبيرة من القِطَع الحجريّة المشغولة منها أجزاء من أعمدة أسطوانية وقواعد وسواكف وحجارة بناء وأجران وجزء من قناة حجرية بالإضافة لوجود “مذابح صغيرة” إذ تروي الأساطير المتناقلة أن النساء الحسناوات كانت تُذبح عليها كقرابين استرضاءً لآلهة النبع وطلباً منها في استمرارية العطاء وهبة الحياة المتمثلة بمياه النبع في مشهدٍ قد يجمع الموت والحياة معاً.
يقال إنَّ زنوبيا ملكة “تدمر” نقلت مياه النبع إلى البادية عبر نفق قديم مازال موجوداً إلى يومنا هذا. ويُذكر أن دمشق قديماً كانت تعتمد على مياه السيول، إلى جانب الجر اليدوي للمياه من بعض العيون الموجودة حول المدينة (عين الكرش-عين الفيجة -عين الزينبية -عين علي) إلى أن استطاع الوالي “ناظم باشا” سحب جزء من مياه الفيجة إلى دمشق بأنابيب محكمة، وتوزيعها على مناهل منتشرة في أنحاء المدينة.
وفي عام 1925 بدأ مشروع تمديد مياه الفيجة من جديد إلى دمشق وانتهى سنة 1932م. إذ تم حفر قناة في جوف الجبال الصخرية حتى الخزان الأعلى في جبل قاسيون بطول (18 كلم) وهي مؤلفة من أربعين نفقاً وثلاث قنوات مبنيّة، وأربعة جسور في الأودية الكبيرة التي يتراوح طولها بين (15-50) متراً.
ويقع نبع الفيجة ضمن ما يعرف بحوض دمشق، ويعتبر أكبر ينابيعه، ويتغذى من حوض القلمون وحتى “حسية” ويبلغ متوسط تصريفه السنوي (7.17) متر مكعب في الثانية، ويستثمر من مياهه سنوياً (4.6) متر مكعب في الثانية، لتغذية مياه شرب دمشق، وتتصف مياهه بنوعية عالية الجودة. يتدفق نبع الفيجة من سفح جبل القلعة وتبلغ غزارته نحو ثلاثين متراً مكعباً في الثانية بفصل الربيع، وتتميز مياهه بالعذوبة والنقاء، لأنها تخرج من بين الصخور الكلسية بعيداً عن مصادر التلوث.
الفيجة ورقة بيد الفصائل المسلحة
التحقت بلدات وقرى وادي بردى بالثورة السورية منذ بدايتها، وظهرت الفصائل العسكرية فيها ابتداء من شباط 2012 تحت مسمى “الجيش الحر” وأهمها لواء أبدال الشام، جيش تحرير الشام، جيش الإسلام وحركة أحرار الشام.
ومع بداية 2013 دخلت “جبهة النصرة” وقتها والتي تحول اسمها فيما بعد إلى “هيئة تحرير الشام مروراً بفتح الشام” وبسطت سيطرتها على قرى الوادي لأهميتها الاستراتيجية، وقربها من مناطق الزبداني وسرغايا، وبالدرجة الأهم السيطرة على نبع الفيجة، لتمسك منذ ذلك الوقت بورقة رابحة في وجه النظام، خاصة وأن النبع يمثل شريان المياه الذي يسقي دمشق وضواحيها، فهو خزان العاصمة الذي يبعد عنها (15كلم) ويزودها بثلثي حاجتها من مياه الشرب.
أبقت النصرة على المهندسين والفنيين الذين يعملون في النبع على رأس عملهم، وفي ذات العام فرضت قوات النظام حصاراً على بعض البلدات في الوادي والزبداني ومنعت إدخال المواد الغذائية إليهم، خاصة بلدتي مضايا وبقين، تطور ذلك الحصار في تموز 2015 إلى قطع كافة الطرق المؤدية إلى دمشق، ومنع إدخال المواد الغذائية والطبية ومنع الناس من الدخول أو الخروج من هذه البلدات، دام الحصار قرابة خمسة أشهر وسط ظروف إنسانية سيئة، ما دفع الفصائل العسكرية لاستخدام عين الفيجة للمرة الأولى كورقة ضغط على قوات الأسد لفتح الطرقات وإدخال الطحين والمواد الغذائية، تم بالفعل فتح الطريق في 24/12/2015، ودخلت ورشات الصيانة وأصلحت خط المياه مقابل ذلك.
استخدمت ورقة نبع الفيجة مرات عديدة، وهددت الفصائل بقطع ضخ المياه نحو العاصمة، وصدرت تصريحات من قبل بعضها بتلغيم أنفاق في حرم النبع، وذلك عند موجات القصف الشديد واستهداف المدنيين في المنطقة أو حصارهم، ويقول أبو عمر الفيجاني (55 عاماً) وهو أحد أبناء بلدة عين الفيجة إن الفصائل العسكرية فاوضت مرات عديدة قوات النظام لإطلاق سراح معتقلين من صفوفها تم اعتقالهم عند حاجز الأشرفية كرهائن مقابل ضمان وصول المياه، أو لفتح الطرقات ومنع قصف المدنيين.
بداية الدم والحصار
في نهاية 2016 وتحديداً في 23 كانون الأول، شنت قوات النظام حملة عسكرية في منطقة الوادي، مع إطباق للحصار على المنطقة، وكان أول استهداف لها لمنشأة عين الفيجة بالصواريخ والبراميل المتفجرة، ويظهر فيديو نشرته الهيئة الإعلامية في وادي بردى دماراً في المنشأة ومحيطها وأضراراً جسيمة في البناء واشتعال للنيران.
ويظهر فيديوهان آخران تم نشرهما في الثالث عشر والرابع عشر من كانون الثاني استهداف النبع مرة أخرى، واحتراق سيارات ورش الصيانة وأصوات للقصف والاستهداف بالمدفعية والرشاشات الثقيلة، ناهيك عن الطيران الحربي والمروحي.
تسببت هذه الهجمات بتوقف النبع عن ضخ المياه بعد تدمير حوالي 50% من مشغلاته، وكذلك دمرت مضخات وآليات كبيرة، كما نسفت مستودعات المحروقات ومواقع تخزين كلور المياه الملاصقة للنبع، ما أدى لاختلاطها بالمياه الصاعدة من جوفه وتلوثها.
ومع خروج نبع الفيجة عن الخدمة واستمرار القصف، سارعت قوات الأسد الى اتهام الفصائل المعارضة بتدمير النبع وتلويث وتسميم مياهه، مع نفي الأخيرة لذلك وتحميلها المسؤولية لقوات النظام.
ومع تبادل الاتهامات بين المعارضة والنظام، أصدرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة في 14 آذار2017، تقريرًا يؤكد “إن الطيران الحكومي السوري تعمّدَ قصف نبع المياه. الذي توقّفَ عن ضخّ المياه إلى دمشق، وحُرم حوالي خمسة ملايين ونصف المليون شخص من المياه لمدة شهر كامل دارت خلاله معارك غير متكافئة بين الثوار وقوات النظام وحلفائه عانى خلالها الجانبين من توقف المياه”.
وقالت اللجنة الأممية “إن فصائل المعارضة لم تقدم على تسميم خزان المياه.. ولم تظهر مؤشرات على أشخاص يعانون من عوارض مرتبطة بتسمم المياه قبل القصف الجوي الذي أدى إلى إلحاق أضرار كبيرة بالخزان”.
الناشط الإعلامي رضوان علي باشا وهو من أبناء الفيجة يقول إن “النظام استخدم أسلحة ثقيلة في قصف النبع والبلدة بشكل عام، من صواريخ” أرض، أرض” وصواريخ ” فيل” وبراميل متفجرة ذات تدمير شامل أدت إلى إحداث أضرار جسيمة في هيكل النبع وبنيته”.
ولا يُستبعد أن جزء كبيراً من مياه النبع قد غارت في باطن الأرض نتيجة لتصدّع الصخور وهذا ما يتكتّم عنه النظام أمام الإعلام كي لا يكون السبب في أي مشكلة تلحق بالنبع”
سكان عين الفيجة عطشى
يقول أبو محمود من سكان بلدة “دير مقرن” المحاذية لـ عين الفيجة وتعتمد على النبع في الشرب وسقاية المزروعات إن عائلته ومن تبقى في البلدة عانوا من شح في مياه الشرب، ما اضطرهم للعودة إلى طرق تقليدية للحصول على المياه من الآبار المحفورة في البساتين وضخها عبر مولدات صغيرة، أو الاعتماد على مياه البحيرات، غير المخصصة للشرب، والتي كانت مخصصة للمزروعات وسقاية المواشي.
في الوقت الذي نزح معظم أهالي عين الفيجة عن المكان الذي بات في مرمى القناص الحراري الذي لم يوفر “حتى قطط الشوارع” بحسب بعض من التقيناهم، وبات الوصول إلى النبع لتأمين مياه الشرب مغامرة لا يمكن النجاة منها.
يقول أبو محمود إنه وبعد مرور أربعة أسابيع من الحصار الخانق، ودخول فصل الشتاء القاسي في المنطقة الجبلية المغطاة بالثلوج، كان عليهم التسلل ليلاً لإحضار المياه من البحيرة الآسنة بالأوعية والجرار الصغيرة على دفعات لملء برميل يكفيهم ليوم واحد، ويمتنعون عن الخروج نهاراً خوفاً من القناص.
وفي السابع من كانون الأول 2017، توصلت قوات الأسد والفصائل المعارضة إلى حل مبدئي يقضي بدخول ورشات الصيانة إلى عين الفيجة بهدف صيانة مضخات المياه، إلّا أن ذلك لم يحدث واستؤنفت العمليات العسكرية وانسحبت الفصائل من منطقة عين الفيجة ووصلت قوات الأسد إلى قوسها بتاريخ 28 كانون الأول 2017 لتبدأ مفاوضات جديدة حول تسوية وادي بردى وحرب المياه.
التسوية نصت على دخول ورشات الصيانة وإصلاح تجهيزات النبع تمهيداً لإعادة ضخ المياه إلى دمشق، بالإضافة إلى خروج أكثر من (700) من عناصر الفصائل مع عوائلهم بسلاحهم الفردي إلى إدلب وذلك خلال 48 ساعة، وتم تنفيذ الاتفاق بالفعل.
ويؤكد الباشا أن هناك بلدة بعمر التاريخ كانت جنة حاضرة على الأرض، دُمرت ومسحت من قبل قوات الأسد، إذ بلغت نسبة الدمار في المنطقة اليوم 90% من المنازل والمرافق والبنى التحتية في قرى وبلدات الوادي، ليحولها بعد استيلائه عليها إلى منطقة عسكرية بدء من “قرية البسيمة وحتى دير مقرن” بحجة الحفاظ على النبع، فيما بسطت الحكومة سيطرتها على أراضي شاسعة وفق القانون رقم (1) لعام 2018 القاضي بإنشاء حرم حول “نبع الفيجة” الذي صدر بناء على مقترح من مجلس الشعب نهاية كانون الأول 2017، وعليه تم الاستيلاء على الأراضي المحيطة بالنبع المائي ويتراوح عرضها بين 10 إلى 20 متر على امتداده وتحويلها إلى أملاك دولة.
تم نشر هذا التحقيق بالتعاون مع موقع فوكس حلب
التعليقات متوقفه