مياهه الآسنة تضر بالناس والتربة: نهر للصرف الصحي يهدد الحياة في قرى وبلدات الشمال السوري
لا تخضع شبكات الصرف الصحي في إدلب وريفي حلب الغربي والجنوبي للشروط المطلوبة، وتغيب الحلول بسبب غياب الدعم عن المجالس المحلية المسؤولة. معظم هذه الشبكات والتي تتراوح أطوالها بين كيلو متر واحد إلى عشرة كيلو مترات قديمة، إلّا أن مصباتها تمثل العائق الأهم في المنطقة، إذ تقترب من المجمعات السكنية لمسافات لا تزيد عن كيلو مترين، وأحياناً تتاخم هذه البيوت، كما تفتقر المنطقة لمحطات معالجة، مما يعني أن المخلّفات تصب في الوديان القريبة أو تشكل بؤراً ومستنقعات، وتتحول في أرياف حلب إلى أنهار وبحيرات من المياه العادمة المكشوفة تاركة آثارها على الصحة العامة لما يزيد عن نصف مليون إنسان، إضافة لانتشار الحشرات الطائرة والزاحفة. إضافة إلى أنها تترك أثرها على الأراضي الزراعية -التي تروى منها- ما يسبب ضرراً على التربة وخطراً على حياة الأشخاص، كما يؤدي زيادة منسوبها في الشتاء لقطع الطرقات وغمر مساحات كبيرة من أراضي القرى والبلدات التي تمر منها، بحسب تقرير وحدة تنسيق الدعم ACU.
منذ أكثر من أربعين سنة والشمال السوري يعاني من مشكلة شبكات الصرف الصحي، فهناك ما يشبه النهر الممتد من سرمدا (شمال إدلب) وحتى “منطقة السيحة حيث مصب “النهر” الناجم عن منصرفات حلب ومخلفات الصرف الصحي في إدلب”، مروراً بقرى وبلدات ريفي حلب الجنوبي والغربي. غير أن الأزمة تفاقمت في السنوات الأخيرة، وباتت تشكل تهديداً على السكان والأراضي الزراعية.
مجرى النهر الصرفي
يقول خالد شيته (من المجلس المحلي لقرية الجينة بريف حلب) إن “مجرى النهر يبدأ من جنوب سرمدا ويمر بين قريتي البرج والحلزون متوجهاً لقرية بابكة، ثم إلى كفر ناصح وباتبو، ليمر بعدها قرب بلدة الجينة، وتصب فيه شبكات الصرف الصحي للقرى المتاخمة وأهمها الدانا ودير حسان قبل أن ينتهي مجراه الأول بقرية كفرنوران”.
عند كفر نوران تتجمع مياه “نهر الصرف الصحي” مع مخلفات الصرف الصحي في خط “باتبو – كفرنوران” والذي بدأ تنفيذه في العام 1980 بطول 11.6 كم، ويمر في قرى وبلدات كثيرة أهمها “الأتارب والأبزيمو وإبين وسمعان وكفركرمين”.
وعن التوجه النهائي لهذا التجمع من مياه الصرف الصحي، يقول عبد الناصر جمال، أحد أبناء مدينة الأتارب: “يتوجه تجمع الصرف شرقاً بعد كفرنوران ليلتقي بمجرور حلب قرب الحاضر، عند قريتي برنة وزيتان بريف حلب الجنوبي، ويصب بمنطقة السيحة قرب تل الطوقان (وهي منطقة منخفضة، يتشكل بها بحيرة ضخمة من مياه الصرف).” وتؤكد ذلك دراسة إقليمية عن منطقة جبل سمعان الإدارية ، توضح أيضاً أن جميع هذه الشبكات مكشوفة ماعدا تلك الممتدة في قرى (إبين وسمعان).
بؤر لانتشار الحشرات والأمراض
تمت تغطية جزء من “نهر الصرف الصحي” ابتداء من سرمدا وحتى قرية البرج، بحسب هاني المصطفى رئيس المجلس المحلي في باتبو ما قلل من الأضرار، إلّا أن المصطفى قال إن النهر يمر في باتبو بطول كيلومترين ويشكل مستنقعاً غرب البلدة تزيد مساحته عن خمسمائة متر مربع، وأن الرائحة السيئة إضافة لمرض اللشمانيا هي أهم ما يعانيه السكان، إذ قدّر إصابة ما يزيد عن 2500 حالة منهم باللشمانيا، وهو ما يعادل أكثر من نصف سكان القرية، مرجعاً السبب لكون المستنقعات بيئة حاضنة لذبابة الرمل الناقلة للمرض، ومكاناً مناسباً لتكاثرها.
مجلس الجينة، بحسب رئيسه، حاله كحال بقية المناطق يؤكد على ذات المشكلة، انتشار حالات اللشمانيا وكثرة الحشرات والروائح الكريهة، حيث يمر قرب قريتهم بطول 3 كيلو مترات، بشكل قوس، قبل وصوله كفرنوران.
وذكرت تقارير صحفية إن أكثر من 150 ألف إصابة باللشمانيا تم إحصاؤها في سوريا خلال العام 2017، أكثرها في أرياف حلب وإدلب، زاد من أعدادها نزوح ما يزيد عن مليون شخص جديد خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، بحسب منسقو استجابة سوريا، واستقرارهم في القرى المجاورة “لنهر الصرف”، إضافة للمخيمات التي بنيت على جوانب نهر الصرف الصحي أو في مناطق قريبة منه. كما ساهم توقف الدعم العلاجي في تفاقم هذه الحالات وزيادة أعدادها إذ تقدر عدد إصابات اللشمانيا في إدلب بخمس وعشرين ألف حالة، وتزيد في حلب عن ثلاثين ألف إصابة.
كما تنتشر بفعل الحشرات أمراض جلدية أخرى، بحسب الطبيب أحمد الشعباني، الذي قال لفوكس حلب “هناك مراجعات لأمراض جلدية جديدة بسبب الحشرات، بعضها لا يستجيب للعلاج، وتترك ندبات جلدية، بعضها يشبه الحروق”.
أضرار على التربة والمحاصيل الزراعية
تركت مياه “نهر الصرف الصحي” آثاراً ممرضة فارتفعت نسبة الاسهالات وسُجلت ارتفاعات في الإصابات بالحمى التيفية، وذلك نتيجة تناول المحاصيل التي يسقيها المزارعون من هذه المياه والتي يعتمدون عليها بشكل كلي، بسبب غياب مجاري الأنهار وندرة الآبار الجوفية. يقول من التقيناهم إن معظم المزارعين يعتمدون عليه في ري محاصيلهم، ووصفوا ذلك بـ “الأمر الاعتيادي منذ عشرات السنين”، في حين شكا العديد من الأهالي من ذلك، واعتبروا أن ري المحاصيل بالصرف الصحي يشكل خطراً على صحتهم وصحة أطفالهم.
وكانت المجالس المحلي قد أصدرت تعاميماً بمنع ري المحاصيل من مياه نهر الصرف الصحي، وفرضت عقوبات على تلك الظاهرة، دون جدوى، فخلال تتبعنا لمجرى “النهر” وجدنا عشرات “مولدات الضخ” المنتشرة على أطراف النهر.
ويرى عبد المغيث الصالح (دكتوراه في الزراعة) أن الري بمياه الصرف يمثل خطراً كبيراً، إذ تكون المياه غنية ببقايا العناصر المعدنية، وتنتقل إلى المزروعات عند ريها من هذه المياه، وبدورها تنتقل وتتراكم في جسم الإنسان، مسببةً العديد من الأمراض على المدى البعيد، كالسرطانات أو حتى الآثار السمية القاتلة بعد تراكمها في الكبد، لتصل إلى حدود عالية يظهر أثرها السام مع مرور الزمن.
كما قال الصالح إن هذه المياه مليئة بالبكتريا والجراثيم الضارة، والتي تنتقل بدورها إلى الخضار والمحاصيل التي سيتناولها الإنسان، وخصوصاً الخضروات الورقية التي تؤكل طازجة دون طبخ، فتصبح بدورها مصدراً للأمراض، وانتقال الأمراض المعدية. وأكد أنه قام بإجراء بحث في جامعة حلب عن أثر الري بمياه الصرف الصحي للخضار والمزروعات، وتبين بنتيجة البحث إن هذه الخضروات غير صالحة للاستهلاك البشري، نتيجة الحمولة الجرثومية العالية، والأنواع الجرثومية الممرضة المتنوعة الموجودة في هذه المياه.
ويشرح المهندس سعيد الأحمد أن السبب في هذه الأمراض يعود إلى التراكيز العالية من النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم والأملاح والمعادن الثقيلة السامة كالكادميوم والرصاص والنحاس والزئبق في مياه الصرف الصحي، والتي تدخل السلسلة الغذائية عبر تراكمها في أنسجة النباتات والحيوانات التي تتغذى عليها، ما يهدد سلامة الاستهلاك البشري لهذه المحاصيل.
من ناحية أخرى يرى الأحمد أن كميات الأملاح الكبيرة تسبب ضرراً في المحاصيل وتقلل من إنتاجها. أما المعادن الثقيلة التي تدخل إلى التربة مع مياه الصرف فتؤدي إلى تلف النباتات ولاحقاً تترك آثارها على التربة، خاصة عند زراعتها ببعض المحاصيل الحساسة لوجود هذه المكونات.
المزارعون يشتكون
بالرغم من اعتمادهم على مياه الصرف الصحي في ري محاصيلهم إلّا أن المزارعين يشتكون من الأضرار التي يسببها وجودها، خاصة في فصل الشتاء مع ارتفاع منسوب المياه، ما يؤدي لغرق أراضيهم وتجريف تربتها وتضررها بمخلفات الصرف الصحي، كذلك انقطاع الطرق إلى أراضيهم، خاصة وأن نهر الصرف الصحي يقسم هذه الأراضي بمجراه إلى قسمين، مع عدم وجود الجسور للوصول إلى حقولهم والعناية بها.
لا حلول في الأفق
يشتكي رؤساء المجالس المحلية الذين قابلناهم من قلة الدعم، وغياب أي دور للمنظمات الإنسانية في حلّ مشكلة مياه الصرف الصحي بسبب التكلفة العالية، وغياب محطات المعالجة أو توقفها عن العمل، أو لوجودها في مناطق تخضع لسيطرة نظام الأسد. كما تغيب الدراسات الجديدة حول مخاطرها وآثارها، في الوقت الذي يعاني سكان هذه المناطق من كارثة حقيقة متعددة الأبعاد.
المصدر: فوكس حلب
التعليقات متوقفه