“الأنا” فينا – سليم المحروق
“الأنا” فينا
سليم المحروق
هي النواة التي تنبع منها قوى الإنسان كلها، وهي الصفيحة الصقيلة التي تعكسُ كل ما انطوى في داخل الفرد من انفعالات وتوهجات باطنية، وهي الحيز الذي تكمن فيه ماهيّة الإنسان وتصرّ على التعبير عن ذاتها وعرض صورتها على مسرح الحياة من خلال ما اعتقدتهُ أنه الوسيلة المناسبةُ لولوج قلوب الآخرين… أو قلْ لتسويق ذاتها في معرض الحياة وعَبْرَ محافلها التي اتسعتْ لأبنائها من بني البشر من قبل، ومازال الميدان حافلاً بالمقيمين ومهللاًّ للقادمين.
و”الأنا” عند بعض الناس قد تكون جاهلةً متكلّسةً متغطرسةً، وقد تكون عند البعض الآخر منهم واعية ليّنة متواضعةً.
فهذه الأنا الأولى تكون بمثابة صاعقة معربدةٍ تُلبِّدُ أسماع الآخرين وتبلبلُ منهم المشاعرَ والحواس. فكم من متكبّرٍ متعنترٍ متشوِّفٍ يسهبُ في تعداد انتصاراته وفتوحاته الفردية، ترى لماذا كل هذا التضخيم في أمجاد “الأنا” المتباهي بنفسه المتنرجسِ بشخصهِ المتألهِ في قوقعته الضيقةِ الآفاق والحدود، نريد منه أن يعرّفنا ماذا أضاف إلى روح الجماعة وشركة المجتمع والإنسانية؟
أما كفانا التغني بإمجاد الفرد وفذاذاته ونبوغاته وحَصَافته وكياسته ولباقتهِ وقيافتهِ وحكمة قيادتهِ! أما شبعنا وسئمنا حتّى الغثيان من:
أنا الذي نظر الـــ…
أنا ابن جلا…
أنا ابن كذا…
أنا سيف العشيرة ورمح القبيلة… أنا… أنا…
إن هذه “الأنا” الضيقة الحدود والآفاق والبعيدة عن ميادين المعرفة والحرية؛ معرفة الإنسان لنفسه وحريته وحرية الآخرين قد أودت بمن ركبوا صهواتها فأهلكتهم شرَّ هلاكٍ وصاروا مثلاً شارداً في الذل والمهانة والانكسار في نظر شعوب الأرض كافةً، أما كانت المشاهد التي مثلوا فيها عبر نهاية مسرحية حياتهم التراجيدية كافية، وهلا أضحت دروساً وعبراً!
إن تلك “الأنا” والفردية المتألهة قد مشت بأصحابها لأمدٍ يسير من الزمن ولكنها مشت بأقدامٍ مستعارة قوامها خزف ونهاياتها تلف.
ولأن هذه الأرجل والأقدام قد هجرها نبض الحياة الدافئ فما أوصلت صاحبها إلى مجده الموهوم وما أثمرت شجرتها سوى البغض والحقد والنزاع الذي ضاق به رحم الحياة فتفجر عبر شرايينها مخلفاً السم الزعاف.
أين نحن من “أنا” المحبة والتعاون والألفة، أين نحن منها تخيّم على النفوس وتغمر القلوب بالأمن والكرامة والغبطة.
دعونا ننأى بأنفسنا عن جحيم “أنا” التي تُردي لننعم بأفياء “أنا” التي تُنجي واعلم أيها الإنسان أن كل كلمة تكلمتها لابد أنك حاصدٌ غلتها طال الزمان عليها أم قصُر فمثلما تزرع تحصد وكما تدين تُدان وكل شيءٍ يوازيه مثيله وكل شيءٍ بمقدار والشيء بالشيء يُذكر.
إن عظمة “أنا” اللينة الواعية المتواضعة تكون في خدمة الآخرين ونكران الذات والنأي بالنفس عن مهزلة تمجيد الذات وتحنيطها في قوالب الجهل والتأله.
أما قال السيد المسيح عليه السلام: “من أراد أن يكون فيكم سيداً فليكن للكل خادماً” أليس حريٌّ أن نتعلم بالمثال وليس بالإذلال.
إن دروس الحياة علمتنا أن السيادة والقيادة كانت للرواد من قادة الإنسانية الذين اتسعت معارفهم بدأبهم وسما قدرهم بتواضعهم وعلت مراتبهم برحابة صدورهم وطيب نفوسهم ورحمة قلوبهم نعم علينا أن نحثَّ الخطا لانتخاب وانتقاء قادةٍ لصفوفنا على درب الحياة الطويل من طينة هؤلاء الرواد الذين ذابت الأنا فيهم في بحر “نحن” الجماعة الزاخر بكل نبض حيٍّ في الحياة.
التعليقات متوقفه